رغم الشكوك التي انتابت المراقبين حول إمكانية اتفاق المجلس الوطني الكردي وحزب الاتحاد الديمقراطي رفقة تحالفه (أحزاب الحركة الوطنية الكردية)، إلّا أن الخطوة الأوليّة نحو اتفاق ناجز حصلت بالفعل، فيما الفضل في إتمام المراحل الأولى معزوّ إلى قوّات سوريا الديمقراطية (قسد) وإقليم كردستان العراق والولايات المتحدة، وستتقاسم الأطراف ذاتها المسؤولية حال تهافت مشروع الاتفاق أو دخوله في دائرة مفرغة، أو في حال فشلت الأطراف المعنيّة في تطبيق بنوده المنتظرة.
الغالب على الظن جاء اختيار الحسكة للتوقيع على مذكرة التفاهم/ البيان المشترك، لتجنيب أربيل انتقادات تركية قد تطالها، وربما يكون مردّ الأمر تثبيت ولاية قسد على المشروع رغم موافقة أربيل على مضامينه، وبذا تصبح قوّات سوريا الديمقراطية والقائد العام لقسد، مظلوم كوباني، المرجعيّة الرئيسية لضمان تنفيذ الاتفاق والتزام الفرقاء بالبنود التي سيتم الاتفاق عليها.
حتى درجةٍ قريبة، أعاد شكل الرعاية الأمريكية عبر دور نائب المبعوث الأمريكي الخاص للتحالف الدولي السفير ويليام روباك للحوار والتلاقي في الاتفاق، إلى الأذهان رعاية أمريكية أسبق، حين رعت واشنطن عبر وزيرة خارجيتها مادلين أولبرايت في أيلول/سبتمبر 1998 اتفاقاً ينهي الصراع الكردي العراقي المزمن بين الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني.
اضطلاع الخارجية الأمريكيّة بملف المصالحة الكردية، يحمل دلالات إضافية إذ أنه ينطوي على تقارب بين البيت الأبيض والبنتاغون في خصوص ملف كرد سوريا، حيث وُصفت العلاقة بين المؤسستين بـ "المتعارضة" لجهة العناية بحلفاء الولايات المتحدة في سوريا، ذلك أن اهتمام الخارجية والبيت الأبيض انصب على مهمة استيعاب تركيا ومصالحها على ما ينطوي عليه من تفريط بقسد، في حين تحلّى البنتاغون بحساسية استراتيجية أكبر عبر مطالبته البقاء في سوريا وحماية حلفائه في مشروع الإجهاز على "داعش"، واعتراضه على قرار سحب القوّات الأمريكية من سوريا والذي عنى اجتياحاً تركياً واسعاً.
لعل حماسة الخارجية الأمريكية لمشروع التقارب الكردي يكشف عن رغبةٍ أمريكية في تأمين جزءٍ من المصالح التركية في شمال شرقي سوريا، ذلك أن الاتفاق من شأنه رفع الحرج عن أنقرة التي ترفض بشكل مبرم الاعتراف بالإدارة الذاتية أو التعاون معها في شكلها الحالي، وبالتالي إمكانية نفوذ تركيا إلى داخل مناطق الإدارة الذاتية حال تغيّر بنيتها، لكن دون أن يفسّر الأمر على نحو خاطئ أو يضع الشبهات حول أحد طرفي الاتفاق، يمكن القول بأن تركيا ستكون مستعدة لقبول جزء من الإدارة المقبلة حين ترى نفسها ممثّلة عبر وسطاء محليين سواء أكانوا عرباً أم كرداً أم خليطاً من كليهما.
بالعودة إلى ما رشح عن اتفاق الطرفين الكرديين، ووفق ما جاء في البيان المشترك، ستكون مسألة تقاسم السلطة "الحكم" والمسؤوليات في "الحماية والدفاع" في صلب نقاط الاتفاق، ما يفتح الباب أمام شيطان التفاصيل الذي سيطلّ برأسه مجدداً؛ فمن تلك التفاصيل مسألة عودة "بيشمركة روج آفا"، وطريقة إدماجها في قوات سوريا الديمقراطية، وإمكانية إشراك قيادات في البيشمركة داخل مراكز القيادة، ثم هل ستبقى هذه القوّة الوافدة في رقعة مكانية معيّنة ومحدّدة، أو ستحتفظ باسمها المستقل ما يوحي بوجود كيانين عسكريين، وهل سيبقى ولاؤها معقوداً لإقليم كردستان أم ستعمل على إنشاء مركزيّة كردية سوريّة أسوةً بالتحوّلات التي طرأت على قسد؟ ثمّة تفاصيل كثيرة في هذا الصدد بحاجة إلى عناية فائقة كي لا تخرج الأمور عن نصابها المأمول.
إلى ذلك ثمة تفاصيل متعلّقة بشكل "تقاسم السلطة" على ما تحويه المفردة من حمولة سلبية، إذ إن التقاسم يعني في بابٍ ما، تولّي المحازبين مقاليد الهيئات المهمّة، بالتالي ستصبح مسألة الولاء مُسبّقة على الكفاءة، من جهة أخرى أين ستصبح مسألة الإدارة المشتركة (النساء والرجال بالتساوي) في هيئات الإدارة المقبلة الأمر الذي قد يبدّل من "موديل" الإدارة القائمة وفق أسئلة كان قد طرحها القيادي في حركة المجتمع الديمقراطي، آلدار خليل، في حوار على فضائية "روناهي"، فضلاً عن ذلك ثمّة قوانين وتشريعات سنّتها الإدارة الذاتية قد لا تتطابق مع مزاج المجلس الوطني الكردي، فهل سيصار إلى تعديلها أو تغييرها أو شطبها، لاحقاً؟.
خارج إطاري الحكم والشراكة، والدفاع والحماية، ثمة جانب آخر بحاجة إلى تدبير جدّي حيث يتوجّب إشراك العناصر القومية إضافة إلى الكرد في إدارة شؤون مناطقهم وبشكلٍ عادل، إذ قد يخلق استئثار الكرد بمقاليد حكم المنطقة ومقدّراتها وسياستها مشاكل عميقة وسوء فهم مديد، وإذا كانت الإدارة الحالية قد أجادت خطب ودّ بقية الإثنيات، إلى حدّ مقبول، فإن الإدارة المشتركة المقبلة مطالبة بتحقيق شيء من عدالة التمثيل واحترام التنوّع الإثني، وعليه ينبغي أن تكون الخطوة التالية للوفاق القومي الكردي، إضفاء شكل متقدّم للوفاق الوطنيّ السوريّ وإلّا سار المشروع على ساقٍ واحدة وآل إلى سقوطٍ حتميّ.
بطبيعة الحال، أراح الاتفاق الأوّلي أعصاب الكرد السوريين، وأعاد إلى السياسة شيئاً مما فقدته في سوريا، وهو إمكانية التخلّي عن المصالح الخاصة وتقديم المصلحة العامّة، الأمر الذي يجعل من كرد سوريا قوّة وطنية قادرة على المبادرة، وليس تلقف المبادرات وحسب.
في مجمل الأحوال تصاعد "الدخان الأبيض" وفق تعبيرات كردية أشادت بالاتفاق، بيد أن التفاصيل تنتظر الأطراف الموقعة على البيان المشترك، وحيث أن الأسئلة ستتولد من بعضها فيما خصّ بنود الاتفاق حال صدوره، فإنّ مهمة الإجابة عن تلك الأسئلة تبقى في عهدة أطراف الاتفاق وفي مُقدّمتها قسد وأربيل، وأيضاً واشنطن التي كانت راعياً وشاهداً على العقد الابتدائيّ.