كنيسة "مار إسيا الحكيم" في الدرباسية.. رمز تاريخي يختصر عقوداً من التعايش في شمال شرقي سوريا

الدرباسية – ريم شمعون – نورث برس

 

في كنيسة "مار إسيا الحكيم" وسط بلدة الدرباسية، شمال الحسكة، تقوم زوجة الكاهن وابنته بتأدية التراتيل والصلوات، إلى جانب ابنه الذي يقوم بطقوس الصلاة من فوق الهيكل، إذ يمنع على النساء الصعود إلى هيكل الكنيسة بحسب طقوس وعادات السريان الأرثوذكس الدينية.

 

وتعتبر "مار إسيا الحكيم" من أقدم كنائس المنطقة، حيث يعود تاريخ بنائها في الدرباسية إلى العام 1935 بعد نقلها من المنصورية شمال ماردين في تركيا، وذلك بعد المجازر التي ارتكبتها الدولة العثمانية بحق مسيحيي المنطقة خلال العامين 1914 و1915.

 

موروث عريق

 

وقبل انتقالها إلى الدرباسية، كانت كنيسة مار إسيا التاريخية والتي يعود عمرها إلى نحو 800 عام، موجودة في المنصورة شمال مدينة ماردين جنوب شرقي تركيا الحالية، لكن تعرض المسيحيين لعمليات إبادة بداية القرن الحالي إبان تنفيذ الدولة العثمانية لمجازر "السيفو"، أجبر مسيحيي بلدة المنصورة على الهجرة لينقلوا معهم إرث كنيستهم إلى بلدة الدرباسية السورية.

 

 وبقيت هذه الكنيسة مقصداً للزوار والمؤمنين لسنوات إلا أنها فقدت الكثير من زوارها مع سنوات الحرب السورية والاجتياح التركي الأخير لشمال شرقي سوريا، ما أجبر نسبة كبيرة منهم إلى الهجرة خارج البلاد.

 

وتقع كنيسة مار إسيا الحكيم وسط بلدة الدرباسية شمال الحسكة، ويبلغ طولها /21/ متراً وعرضها /9/ أمتار، وتحيط بها باحة واسعة تحوي مدرسة خاصة تابعة لطائفة السريان الأرثوذكس، ولكنها أُغلقت منذ سنتين، بسبب هجرة أبناء الرعية خارج البلاد.

 

"الطبيب إسيا"

 

ويقول الأب ميخائيل يعقوب، كاهن كنيسة مار إسيا الحكيم في الدرباسية لـ"نورث برس" إن تاريخ الكنيسة يعود إلى القرن الرابع الميلادي حيث ولد القديس مار إسيا الحكيم في مدينة ماردين وسُميت الكنيسة على اسمه، و كلمة إسيا كلمة سريانية تعني الطبيب، بحسب قوله.

 

ويضيف الكاهن أن القديس مار إسيا اشتهر كطبيب يشفي المرضى بدون الاستعانة بالأدوية، وتخليداً لاسمه بُنيت له العديد من الكنائس.

 

ويضيف ميخائيل يعقوب، أن السكان كان يسافرون مسافات طويلة بحثاً عن الأطباء لتقلي العلاج وكان الحكيم مار إسيا في كنيسة المنصورية قد ذاع صيته فاصبح مقصداً لهم، وكانت مدينة الدرباسية حينها بمثابة إحدى البوابات التي يمر منها الزوار من أجل الوصول إلى مدينة ماردين وزيارة الكنيسة وطبيبها.

 

وتحوي كنيسة مار إسيا الحكيم في الدرباسية، الآن الكثير من المخطوطات والصور والكتب القديمة ويعود أغلبها لمئات السنين، وأهمها صورة كبيرة للقديس مار إسيا معلقة وسط الكنيسة.

 

قبل مئة عام

 

ويقول الأب ميخائيل يعقوب: "بعد مجازر السيفو وصل قديس كنيسة بلدة المنصورية إلى الدرباسية السورية رفقة مجموعة من سكان بلدته المسيحيين بعد أن نقلوا معهم كل تراث كنيستهم ومحتوياتها، وقاموا بإعمار كنيسة مار إسيا لأول مرة عام \1931\ من اللبن، لكن أُعيد بناؤها عام \1949\ من الإسمنت والحجر"، على حد قوله.

 

ويبدو الطراز القديم لمبنى الكنيسة واضح المعالم، إذ تجد فيها الزينة الرومانية، كما تبدو آثار الزمن واضحة على بعض الصور والكتب داخل الكنيسة.

 

وكانت كنيسة مار إسيا الحكيم تعج بالمصلين والزوار، إذ كانت العشرات من العوائل المسيحية تسكن مدينة الدرباسية، إلا أن سنوات الحرب السورية والاجتياح التركي الأخير لمناطق شمالي سوريا، دفع الآلاف من أبناء المنطقة إلى الهجرة، كما حال غالبية العوائل المسيحية في الدرباسية.

 

حرب بعد قرن على المجازر

 

بأسف شديد يتحدث الكاهن ميخائيل يعقوب عن هجرة المسيحيين مع بداية الأزمة السورية وبشكل خاص أثناء الاجتياح التركي على مدينتي تل أبيض ورأس العين/ سري كانيه، "لدى الناس خوف موروث من أيام مجازر السيفو، ومع بداية الأزمة السورية واختلاط الأوراق وحدوث فوضى أمنية، عاد هذا الخوف ليظهر من جديد، فبدأ الشعب يهاجر وبأعداد كبيرة".

 

وبعد الاجتياح التركي للمنطقة، قام الكاهن مع بعض من رعية الكنيسة بإخفاء جميع الكتب والصورة الأصلية خوفاً عليها من السرقة أو النهب، على حد قوله.

 

ويشير إلى أنه قبل الحرب السورية كان يقطن في الدرباسية أكثر من /50/ عائلة مسيحية، لكن لم يتبقَ منهم اليوم سوى عشرة عوائل، وهذا ما أثر على رعية الكنيسة وزوارها أيضاً، فلم يبقَ شمامسة (خدام) في الكنيسة، ويقتصر تأدية طقس الصلاة على الكاهن وعائلته وبعض من الرعية لا يتجاوز عددهم العشرة.

 

عقود من التعايش

 

ولا يزال باب الكنيسة مفتوحاً أمام الزوار من جميع الطوائف والأديان، ومن بين الزوار الدائمين للكنيسة إيمان خلف، من سكان الدرباسية.

 

وتقول "خلف"  لـ"نورث برس" إن كنيسة مار إسيا تعتبر مكاناً دينياً مقدساً لجميع السكان، "لست الوحيدة التي تتردد على الكنيسة من غير المسيحيين، فمنذ أيام أجدادي وهناك تعايش كبير موجود بين سكان الدرباسية، وزيارتنا لها تأتي من مبدأ أنه مكان ديني ومقدس نتبارك به، كما نقوم بتهنئة أخوتنا بأعيادهم".

 

وتعاقب على خدمة هذه الكنيسة منذ تدشينها عشرة كهنة، كان آخرهم الكاهن الحالي ميخائيل يعقوب.

 

ويحتفل السريان بعيد الكنيسة في الخامس عشر من شهر تشرين الأول/ أكتوبر من كل عام، وهو ذكرى وفاة القديس مار إسيا سنة ٣٧٧ ميلادي، وهو التاريخ الذي أقرته بطريركية أنطاكية وسائر المشرق للسريان الأرثوذكس في دمشق.