لنا أن نتصور كيم جونغ ايل أون، وقد غاب عن الإعلام الكوري لثلاثة أسابيع متتالية، سيكون لاختفائه آثار جانبية بالغة، غير أن لوزارة التوحيد في كوريا ما تقوله:
هو لم يغب، هو شبّه بالغائب.
فالرجل يختفي فجأة ثم يعاود الظهور من خلال المساحة المكانية ـ الزمنية القابلة للطي.. لديه القدرة الخارقة على تقليص المسافة بين الحضور والغياب.
كان على كورونا، أن يفرض على الكوريين "أنسنة" زعيمهم، بما يعني أن الزعيم ذهب ليتبوّل كما كل المخلوقات، مع بعض الإضافات كأن يقول بأن كيم جونغ أون يتبوّل (بمسؤولية بالغة)، وبمنتهى التكتم، فالبلاد لا تبحث عن زعيم يتبوّل في حديقة عامة، وإذا ما حدث أن تبوّل مواطن في ساحة من ساحات بيونغ يانغ، فمما لاشك فيه بأن وزارة الدفاع ستعطي أوامرها بتفجير رأسه فالإعدامات هناك تكون بالمدفع لا بالبندقية، بقذيفة مدفع لا برصاصة من سلاح خفيف.. ولكن لابأس إذا ما حدث لمثانة الرئيس ما يستوجب تجاوز الهيبة، فإذا ما فعلها، سيبدو الرجل مواطنًا سلسًا، فالعالم يتغير وتعظيم النشاط الثوري للزعيم ومظهره على الدوام سيؤدي إلى تغطية الحقيقة، وعلى المواطنين أن يعتبروه بدءًا من اللحظة إنسانًا ورفيقًا كما هو قائدهم.
ولكن ماذا لو حدث ومات الرجل؟
هو رجل ليس يموت فيختلط بأوراق الغابة، هو كلما مات استيقظ، وهو كما كل تاريخ الآلهة، حين يموتون تكون قيامتهم، وإذا ما واصلوا الاختفاء، فكل ما في الأمر أنهم دخلوا السرداب الأزلي ليعودوا مع وصول الأبد.. على حافة الأبد، وليس جديدًا أمر كهذا، حدث ذلك في صدر الإسلام، مع أبو علي المنصور بن العزيز بالله بن المعز لدين الله الفاطمي، والذي لقب بـ "الحاكم بأمر الله"، وكان وكما وصفه ابن تعرى بردى في النجوم الزاهرة "شخصية متضادّة بين شجاعة وإقدام، وجبن وإحجام، ومحبّة للعلم وانتقام من العلماء، وميل إلى الصلاح وقتل الصلحاء. وكان الغالب عليه السخاء؛ وربّما بخل بما لم يبخل به أحد قطّ"، وحين كان اختفاؤه، لم يكن اختفاء بل احتجاب لما لا يدرك ولا يحسّ، وحين تكون سيرته تكون مرفقة بالإعدامات حتى وصل به الأمر وكان طفلاً أن أمر بقتل مدبر دولته أرجوان الخادم الممسك بمقاليد الأمور.. وكان أرجوان مدبره وراعيه، ولولا التباعد التاريخي والمكاني لقلنا وكذا أعدم كيم جونغ ايل أون زوج عمته ووزير دفاعه وعدداً من المسؤولين الكبار في الدولة، وبوسائل مختلفة ففي واحدة من أعذب حالات الإعدام أن أمر بإعدام وزير التعليم، وذلك بسبب أنه "غفا" أو غلبه النعاس وربما النوم، وعلى الجمهور أن لا ينام مادام القائد لم يغلبه النعاس.
ـ إنه النوم أيها السيد، ولا نعلم ما هي درجات ترتيب النوم باللغة الكورية، ولكننا نعرفه باللغة العربية، فهو يمتد من النعاس مرورًا بالوسن / الترنيق / الكرى وصولاً إلى الرقاد.
وأي رقاد إذا ما كان وحوش العالم يتربصون بك، وإذا ما بلغ ضحايا بلدك من القتلى ستمائة ألف قتيل، عداك عن الجوعى والمهجّرين والنائمين في العراء، أو إذا وصلك الخبر بأن الحرائق قد طالت مجموعة من السجينات العاريات، فيما الموتى يحكمون من القبور؟.
في كوريا، القائد وقد باتت تعليماته صريحة:
ـ ممنوع النوم.
وفي سوريا، عليك أن تغفو ولثلاثين عامًا مع شاشة الأبيض والأسود، والرجل يعلِّمك وبكل الثقة بأن:
ـ الشهادة حياة.
الشهادة بمعانيها هي الموت، موتك أنت فهو الخالد، هو المطلق وأنت النسبي، نسبي ضئيل حتى لا تُرى، وإن متّ فلابد من أن يمنحك زوج أحذية في طريقك إلى المقبرة، فتكريم الشهداء يتجلّى في أن لا يمشوا حفاة باتجاه نهاياتهم، ولابأس إن عاشوا حفاة وهم على ظهر الحياة.
وهكذا فإذا ما ركبت الحافلة لتعود إلى البيت، وجلست في المقعد إذا ما توفر مقعد فارغ، فكل ما عليك أن تصغي إليه هو خطاب الرئيس.. إلى الخالد الذي لم يطأه الموت بعد أن وطئ الحياة، وعليك أن تفهم أنه ليس من حقك، ولا يفدك أن تُضرِب عن ركوب الحافلات لتغير مجرى التاريخ، وكان قد حصل أن غير مقعد في حافلة مجرى التاريخ، كان ذلك يوم ركبت الخيّاطة الزنجية الشابة روزا باركس، الحافلة لتعود إلى بيتها فأزاحها الرجل الأبيض وكان من بعده الإضراب الكبير.. الإضراب وقد أنتج فيما أنتج تحريم التمييز العنصري فكان لامرأة محتجّة واحدة أن تفعل في التاريخ مالم تفعله الممحاة، ومن بعدها بتنا نتابع أخبار محمد علي كلاي وأنجيلا ديفينز وحتى مايكل جاكسون وفرق الجاز.
أما أنت فكل ما عليك أن تبحث عنه هو مقعد في الحافلة، ولا بأس إذا ما كان مقعدًا في الهواء.
لقد ركلت تلك السيدة بقدمها ثقافة اليانكي، فيما لم تزل أنت تراوح ما بين الجلاد الطاغية ومندوبيه من المبشرين بجنته.. إلى يمينك حافظ الأسد، وإلى يسارك أبو بكر البغدادي، والمناضلون ماضون وبكل المرح المعتاد برفع صورة ثلاثية الأبعاد لرجل ببعد واحد يسمى صدام حسين، دون أن يتاح لك أن تفر من زنزانتك حافي القدمين.
لست مرغمًا على البحث عن أديناور، وقد جاء بعد ثلاثين سنة من هتلر لينتشل ألمانيا من الرماد، وليس متاحًا لك أن ترث البانديت جواهر لآل نهرو، أو المهاتما غاندي وقد منح بلاده سلالتها الأكثر استمرارية، ليكون رجل المستقبل وقد خرج من بلد يستحم في الأشهر المقدسة.. فقط في الأشهر المقدسة.
عليك أن تقدّس صدام حسين.. أبو بكر البغدادي.. السيد خامنئي.. أبو مصعب الزرقاوي.. حافظ الأسد، وأن تأخذ من التاريخ عبرة واحدة، ربما تصطادها من أهل الحبشة، أولئك الذين ناموا ألف عام، ليعثروا على أنفسهم وهم يتراكضون مع قطعان الماعز خلف سيارة الرولز رويس، بعد أن يقفزوا عن ظهور الحمير ترحيبًا بأسد قبيلة نجاشي النجاشيين.. إلههم ذاك الذي اختار لزوجته سريرًا من الذهب، فيما تموت جنّته من الجوع.
ها أنت ذا في بلاد كان على فريدريك هوف مستشار إدارة "أوباما"، أن يلخص حالها.. إنها البلاد التي رسمها حافظ الأسد لك ثم أنبأوك بأنه مات تاركًا وراءه "هذا النظام الذي يشبه رجلاً ميتًا يمشي ويتحرك".
لم يسع فريديريك هوف أن يضيف:
ـ ميت يمشي ويتحرك ويدخل سرداب الأبدية فلا يموت.
من قال أن حافظ الأسد مات؟ لقد دفنوا تابوتًا فارغًا، هكذا يعتقد أنصاره ووارثوه.
ومن قال أن ابنه هو من يحكم البلاد.. لا، ليس الأمر هكذا، فالابن وكما وصفته فرقة البوب الأمريكية: Right Said Fred.في أغنية خصصت له بعد أن نصحته بالتوقف عن شراء أغانيها بـ:
ـ الولد الذي يخاف من أمه.
بعد كل ذلك حذار من النوم وإن تعددت مسمياته في لغتك العربية، عليك أن تتأرجح كما القردة.. تتأرجح دون توقف أبدًا، فلست أحسن حالاً من القردة.
لقد قالها لي فاتح المدرّس: "لو عرف شارلز داروين بأحوالنا لعكس نظرية الارتقاء".
ها نحن بالانتظار.
بانتظار أن يحدث التحوّل الكبير لنعود قردة كما ينبغي للقردة أن تكون، بفارق أنه ليس للقردة زعيم يطلق النار على رأسه إذا ما غفا.. بلا زعيم يؤكد عليك أن:
ـ في الشهادة حياة.
ومن بعده، سيكون من واجبك إجلالاً للموتى أن تهتف:
ـ تعيش القبور.