لا تُكِثر من الأسئلة، كل ما عليك هو أن تتصفح محركات البحث لتتعرف على أفضل الطرق للوصول إلى نهاية طريقك.
ـ طريقك أنت، ولا نعني نهاية العالم.
مع "كورونا"، كما الحروب التي سيكون فيها الإنسان رخيصاً ومتاحاً.. يبدأ الإنسان معدناً، ثم طيناً ثم يتحول إلى حيوان ومنه إلى التراب ومن التراب إلى عشرات المواد الشائنة ليخرج من زمن يسمونه اليوم "زمن الإغلاق" زمن كورونا.
معامل صهر الحديد متوقفة، ومعامل الأجبان والألبان كذلك حالها، شركات الطيران، متوقفة، والأكثر ألماً، هو توقف دور البغاء ومن المرجّح أن يكون حالها أكثر تراجيدية من سواها.
ـ لا تقلل من شأن مأساوية العاملات بالمهنة، فلقد أغلقت بيوتهن في كل المدن الأوربية.. في هامبورغ وشمال الراين وستفاليا، وبات الذعر وحده يطال حياتهن على الحدود ما بين بولندا وبلغاريا، فانتقلن إلى الشارع مع أن العديد منهن سيحتلن على الأمر، وسيواصلن العمل عبر الإنترنيت إذا كان بوسعهن التقاط زبائن.
الشغل اليوم، ومن خارج صيغة "زمن الإغلاق"، بات متوقفاً على مهن محددة وصغيرة:
ـ الأطباء والممرضات، والسياسيون وصنّاع التوابيت.
السياسيون ومثالهم المفضّل دونالد ترامب، يخوض معركته في مواجهة كورونا، وقد ارتدى بزّة الله المحارب، فالفشل بمواجهة كورونا، قد يقطع طريقه إلى البيت الأبيض ليكون رئيساً لخمسين ولاية.
ـ لا:
ـ دونالد ترامب مسكون بغرور الله.. هو الله وقد بُعِث إلى زمن لم يكن يحتسب أنه سيكون زمن الإغلاق الكبير.. لقد كافح الرجل ليكون هو الزمن، وسواه بشر على رصيف.. بشر في الثلاّجة.. إنه:
ـ زمن دونالد ترامب.
لم لا يكون الأمر كذلك وقد شهد التاريخ أزمنة وسمت بأسماء أباطرة كبار، كما لو نقول:
ـ زمن كاليغولا.
ليس هذا مرضاً فردياً كما نظن، إنه مرض الإنسان.. المرض المتنقل معه على كل دروب التاريخ، بتحولات التاريخ، وبأكاذيب التاريخ، ببحيرات التاريخ ومستنقعاته وذات يوم كان صدّام حسين قد أسرّ لواحد من رفقائه:
ـ سيسجل اسمي على جدران التاريخ. وأضاف:
ـ وبحروف من ذهب.
معمّر القذافي اعتقد بأنه سيكون بحرف من ذهب، وحافظ الأسد كذلك، مع أنهما (لا معمر ولا حافظ الأسد) يمتلكان وكالة فضاء بحجم "ناسا"، ولا سبع أساطيل حربية بعشر قيادات موحدة كما حال دونالد ترامب.
والحال كذلك، ما الذي يحول دون دونالد ترامب وتحقيق تلك الرغبة؟ رغبة أن يكون أعظم رجل في التاريخ، حتى لو لم يبق هو ولا بقي التاريخ وسط ضجيج نهاية التاريخ وقد توافق عليها مع نشوة كورونا كل من الإنجيليين والحريديم، وكذلك شيعة "قُم" والمرشد الأعلى؟
ـ لم لا؟
فلينته التاريخ، وليتوقف، غير أنه ليس من العدالة ولا الرحمة وضع كل تلك الممنوعات بمواجهة عمل البغايا اللواتي لن تكون مهنتهن مقززة كما هو حال ما في رؤوس قادة تاريخيين يرسمون لجثثهم خيولاً تجرها إلى المقابر وسط ملايين البشر الذين يهابون الموت، ولا يبحثون عن الخلود.
ـ وسط بشر كل ما يبحثون عنه، ميتة محترمة.
لا.. لنقل ميتة أقل إهانة من الحياة، في عالم باتت المقابر فيه كنزاً ثميناً، بل باتت صناعة التوابيت، وحدها الصناعة الأكثر تطلباً حتى بلغ حال مقبرة كما مقبرة "غرين وود" في نيويورك أن ترفض الموتى بعد أن تلقت خمس أضعاف طاقتها الاستيعابية، وبات على إدارتها أن تعلن:
ـ أعزائي الموتى، لقد وصلنا إلى نقطة لم يعد ممكناً عندها إدارة مثل هذا الحجم من زملائكم في زمن قصير كهذا.
ولهذا، فهل سيعيد العالم اليوم إلى المحارق قيمتها؟
ـ هل سيعيد للمحارق دورها ووظيفتها، وعلى جدار أفران إحراق الموتى قد تقرأ جملة بالغة الدلالة: تدخلون من بابها وتخرجون من مداخنها؟
ليس عيباً أن يحدث ذلك، ففي الجائحات الكبرى.. التراجيديات الكبرى، الحروب الكبرى، لابد وأن يستغني الإنسان عن معطفه الأخير:
ـ عن القبر أو التابوت أو الكفن.
أقله وقد تحولت التوابيت إلى بضاعة ثمينة، فهذا مصنع النعوش في شمال شرقي فرنسا يقوم بتصنيع 80 ألف تابوت ويجتهد في بيعها بأسعار تتراوح ما بين 700 يورو إلى 5000 يورو، ومن أين للطبقة العاملة وقد وعدها كوستا غافراس أن تدخل الجنّة؟ من أين لها بحصاد مثل هذا السعر، لتنتهي تلك النهاية السعيدة.. نهاية بمعطف من خشب البلّوط أو أخشاب الكرز؟
ـ يا لبؤس مثل هذه الرفاهية.
يا لبؤسها، أقله أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ألغى ومنذ زمن بعيد حق الموتى في اختيار معاطفهم.
حدث ذلك منذ أن أخذ الإنسان يجهد نفسه في نسيان أنه وحين كان ينتمي إلى العالم القديم، كان من حقه أن يختار حرقه أو دفنه مزيّناً بالورود، يعوم في سفينة، حتى لتجد هناك من بشر العالم القديم، من يطلب من النجارين صناعة نعش له، قبراً على شكل زجاجة نبيذ أو هاتف محمول او علبة ببسي كولا.
هكذا كان حال العالم القديم، ومن يستطلع قبور الفراعنة، سيتعرف باليقين، أن الفراعنة فعلوا ذلك ولا ندري إن كانت هواتفهم المحمولة متصلة بنا لنسألهم:
ـ كيف حال مقابركم أيها السادة.
نحن اليوم في عصر آخر.. زمن آخر، ومعاطف أخرى.
سنخرج من معاطف فرزاتشي، إلى زمن الكل فيه سعيد، زمن ما بعد "الإغلاق الكبير"، لنتشكل وفق عالم آخر، وبلغة أكثر واقعية:
ـ سيتشكل من سيخرج منا حياً وفق عالم آخر.
عالم ينبئوننا عنه، أننا سنكون تحت الرعاية.. كل الرعاية، الأساور في معاصمنا وحرارة أجسادنا تصلهم لحظة بلحظة، كما خفقات قلوبنا.
إمبراطوريات تغرق، وإمبراطوريات تنهض، ولسنا ممن يعرفون على وجه الدقة من سيبقى وراء الأبواب المغلقة:
ـ أميركا العظمى أم إمبراطورية التنين؟
ـ من سيكون مؤهلاً للبقاء إلى الزمن القادم؟
ثم:
ـ سيتوجب علينا أن نسأل:
ما هو الزمن القادم؟
هل نستعين بنعوم تشومسكي أم بناعومي كامبل لنتعرف عن ماهية الزمن القادم؟
لا شك بأن البنت السمراء أشاحت بوجهها عنا في محجرها وقد غادرت لحظتها التاريخية في عرض الأزياء بعد أن التحقت بالمنظمة العالمية للسلم والرعاية والإغاثة بترشيحها سفيرة للنوايا الحسنة.
دون شك سيكون العالم أجمل مع ناعومي كامبل، ولكن الضرورات تأخذنا إلى التسعيني العجوز تشومسكي، وقد أنبأنا بأننا نقترب من الرعب الأعظم ..
هو قال ذلك : "الرعب الأعظم"، وكأنما سينسينا وقائع اليوم، وقائع الفايروس البارد، ليذهب إلى ما كنا قد نسيناه في السباقات إلى الهاوية التي تعيشها البشرية:
ـ تهديدان سيأخذان البشرية إلى واحد من هلاكين:
ـ الأول، التهديد المتزايد لاندلاع حرب نووية، والآخر، هو التهديد المتزايد للاحتباس الحراري.
يمكن التعامل مع التهديدين، لكن لا يوجد الكثير من الوقت لتداركهما. هكذا يقول الرجل، أما الفيروس التاجي "كورونا" يمكن أن تكون له عواقب مرعبة. لا يمكن بعدها العودة إلى الوراء، حتى لو تمّ التعافي وحدث الانتعاش.
ـ عن أي وراء يحكي الرجل؟
الخطر يقترب، وترامب (والكلام لتشومسكي) هو الأسوأ بسبب قوة الولايات المتحدة الساحقة التي يترأسها. فهي الدولة الوحيدة القادرة على فرض عقوبات مدمرة والقتل وعلى الجميع أن يتبعوها.
ـ ليس للعالم خيار حتى.
من قال لتشومسكي، أن ليس للعالم خيار آخر؟
ـ ربما لم يتسن للرجل الرقص مع أولئك الراقصين الذين يقيمون صلواتهم مرددين "الله الله" وكأنهم يرقصون حول قلوبهم ودفوفهم تقرع نهاية التاريخ.. نهاية الإنسان المنتصب على قائمتين .. ذاك المتحدّر من أجناس إنسانية أخرى من ضمنها الإنسان المنتصب. . الإنسان الذي لا يملّ من إطلالاته التلفزيونية.. إنسان ما قبل "كورونا".
ـ ربما لم تسعفه شيخوخته بقراءة آخر الوصفات المضادة للفايروس والتي تنبئنا بأن لقمة من تراب ضريح الحسين ستكون اللقمة الطاردة للوباء المهلك.
ـ ربما لم تلحظ جحافل "الحريديم" وهم يبصقون في الهواء ويكررون سعالهم وكأنما يبصقون الهواء الذي يحمله.
وها نحن وقد عرفنا حجم الألم، وكأنما لم نكن على دراية كافية به، نقرأ أخباراً أشدّ إيلاماً " لقد توفي الملياردير البرتغالي أنطونيو بييرا صاحب بنك سانتادير بفيروس كورونا . . كتبت ابنته: "نحن عائلة ثرية جداً ، لكن أبي مات وحيداً مختنقاً وهو يبحث عن شيءٍ مجاني اسمه الهواء" !!".
ـ الهواء؟
مادام الأمر كذلك، فمما لاشك به، أنك ستمنح خصمك نعمة كبيرة إذا ما قلت له:
ـ كُل الهواء أيها السيد.
كُل الهواء.. لم يعد الهواء مجّانياً كما كنا نعتقد.. لم يعد بالوفرة التي كانت متاحة لنا.
ـ ماذا علينا أن نعلم أكثر من ذلك؟
كل ما نعلمه أنه لن يتسنى لنا اختيار "معطف" آخرتنا.
لاشك بأننا (والـ نا) تعود على العرب حصراً، سنكون متروكين للقضاء والقدر، دون نسيان أنه سيتوجب علينا التسجيل لدى السلطات الصحية القادمة إلى العالم القادم، أنه من حقنا أن نعمل بغايا، فإذا لم يسعنا ذلك فلابد وأن نخضع للضوابط القانونية التي قد لا تنتهي بدفع غرامة.