حسين جمو
للمسألة الصحية مكانة مركزية لدى النخب الحاكمة على مر التاريخ، لكنها تعرضت للإهمال من الناحية التحليلية مقارنة بجوانب أخرى أقل أهمية في تثبيت أركان أنظمة الحكم والسلالات الحاكمة.
وصحيح أنّ الصحة العامة للسكان تكاد تنال درجة الاهتمام نفسها لدى الجماعات الحاكمة، نظرياً على الأقل، على أنواعها، إلا أن الخطأ في هذا المجال مكلف للغاية. فهذا ميدانٌ يمكن فيه للأنظمة غير الانتخابية، والتي تواجه تمردات داخلية، تحسين موقعها والظهور بمظهر "الحاكم العادل" الذي لا يميز بين منطقة معارضة للحكم وأخرى موالية.
في موازاة ذلك، العديد من الحكومات الديمقراطية وهي تكافح وباء "كورونا"، في طريقها لتحمّل تداعيات قد تكون كارثية جرّاء طريقة تعاملها مع هذه الجائحة، وهو ما يجري في أوروبا حالياً التي يبدو أنها اعتمدت على طريقة "مناعة الحشود" وتقتضي ببساطة ترك الوباء يتفشى إلى أن تتشكل مناعة ذاتية. وبذلك تتساوى الأنظمة الصحية لدى كافة الدول الأوروبية مع الأنظمة الصحية في إيران.
وبصورة أخرى، أوروبا تفشل في حماية صحة المجتمع على عكس نجاحها في الحفاظ على صحة الفرد. فالنظام الصحي هناك على ما كشفه التفشي السريع لفيروس "كورونا" مصمم للحفاظ على صحة (الفرد – العائلة) وليست مجهزة للأوبئة الجماعية، على عكس المعادلة في الصين التي ما زالت الصحة العامة (الجماعية) تحتل مرتبة متقدمة في سياساتها الاجتماعية.
الأمور تجري على هذا النحو. الأوبئة تتحول إلى فرص ذهبية لبعض النظم السياسية، والصحة تصبح ساحة لإعادة النظام بناء نفسه "شرعياً". بعض الحكومات تثبت نفسها في الأوبئة، وبعضها تفقد ثقة مؤيديها، وبعضها تكسب ثقة معارضيها.
إلى الآن، النتيجة الأولية أن نظاماً لا يعترف بالاقتراع الشعبي المباشر، كالصين، هي الأكثر كفاءة في مكافحة الوباء. وقد تضاف هذه "واقعة كورونا" إلى قائمة أنصار أفضلية الشمولية على الديمقراطية.
بنظرة أخرى، النظم العاجزة صحياً لا فرصة لها في البقاء طويلاً، سواء كانت دول أو أحزاب تحكم مناطق إقليمية. والعجز هنا لا يعني عدم توفير العلاج، فالعلاج في حالة "كورونا" غير موجود إلى اليوم، إنما من صور العجز أيضاً الاستهتار والاستسلام تحت مقولة أن "دولة مثل بريطانيا تقف عاجزة، فما الذي سأفعله؟". الجواب ليس مكيافيلياً وإن بدا كذلك. هناك ما تستطيع أن تفعله وهو إظهار القلق على الأقل.
تاريخياً، بقدر ما جرى تفكيك وتحليل مسألة توظيف الدولة للعنف في مسيرتها، تم التقليل من شأن احتكارها الصحة التي لا تقل فتكاً عن العنف.
في بعض الفترات، تحولت الصحة إلى جزء خفي من العنف الموجّه لتحقيق غرض معين. كثير من الحكام الجدد لجأوا إلى صناعة مجاعات صغيرة من أجل إظهار دورهم الحاسم في إنهائها. أحياناً كان الأمر يخرج عن السيطرة، كما في فترة الامبراطور الروماني كاليغولا، لكن بقيت المسألة الصحية واحدة من الدفاتر شبه المغلقة، والهامشية غالب الأحيان، في مجال البحث والتحليل الخاص بفلسفات السلطة عبر التاريخ، أو أقله التاريخ الحديث.
حين قام السلطان محمود الثاني بتجهيز الإصلاحات الكبيرة بعد القضاء على الجيش الانكشاري سنة 1826، بات لزاماً عليه التخلي عن الحيلة العثمانية بترك السكان يواجهون الأوبئة بدون مقاومة، من مبدأ قناعة غالبية السكان أنه بلاء إلهي. فسيَر المدن العثمانية مليئة بقصص الرفض الجماعي للحجر الصحي. فقد كان المجال الصحي ساحة للمقاومة الاجتماعية الشرسة ضد التحديث المبكر في الدولة العثمانية.
في طاعون عام 1774، قام والي البصرة، سليمان بك أبو سعيد، بإجبار العامة على أكل الثوم وشكل لهذا الغرض لجاناً مدعومة بالجندرمة لتنفيذ ذلك. لكن الأمور بدأت تتغير حين تقاطرت البعثات الغربية إلى مدن الشرق، وتمكن العديد من مراكزها الصحية من معالجة حالات بدت مستعصية في نظر السكان. وفي إحدى الحالات، روى المبشر الأمريكي والطبيب الشهير، الدكتور كوجران، الذي كان شاهداً على ثورة عبيدالله نهري سنة 1880 أنه نجح في علاج زوجة محمد صدّيق، نجل عبيدالله، في مستشفى البعثة التبشيرية في أورميه، وتلقى مقابل عنايته هدية من الشيخ وهي حمل بغل من ألذ العسل الجبلي وأجود التبغ.
لإعادة تصحيح الأمور، وضمن مسار عام للانتقال بالدولة من مستوى مسايرة الخرافات الصحية إلى موقع "معلّم الشعب"، أنشأ السلطان محمود "المجلس الصحي الدولي"، سنة 1838، وعهد إليه إدارة كافة محطات الحجر الصحي في الدولة. وكان في العام السابق قد فتك الطاعون بسكان العاصمة اسطنبول وانخفض عدد السكان، وقلّة السكان تعني خسارة الدولة في كافة المجالات، أولها الجنود وحاصلات الضرائب. لكن هذه المؤسسات الصحية، إلى جانب تأثرها بالفساد المدني الكارثي في الدولة، بقيت تواجه مقاومة اجتماعية حتى نهايات القرن التاسع عشر، عدا مراكز مدنية متقدمة، مثل حلب، التي نشط فيها الحجر الصحي في وقت مبكر مقارنة بالمدن الداخلية العثمانية. وبقيت التكايا الصوفية تستقبل مرضى أكثر بكثير مما كانت تستقبله مستشفيات الدولة في المناطق الداخلية للدولة.
مع الإطاحة بالسلطان عبدالحميد الثاني، كانت المسألة الصحية قد تقدمت في سلسلة اهتمامات السكان، لكن كثرة الحروب اللاحقة، وأولوية علاج العساكر، أبقت المدنيين وسط أوبئة متلاحقة حتى نهاية الدولة العثمانية. وأكثرها فتكاً كان ما أطلق عليه شعبياً "الوباء الأرمني" الذي انتشر خلال عمليات إبادة الأرمن وترحيل الناجين منهم.
لكن تنظيم الاتحاد والترقي رفع من درجة اهتمامه ببعض المناطق، من بينها كردستان، قبل الحرب العالمية الأولى، للقول للسكان إن عهداً جديداً قد بدأ، سياسياً وصحياً. وتم توزيع الأدوية على الفلاحين، حيث كانت الأمراض العادية فيما مضى تؤدي إلى الوفاة بسبب نقص الأدوية وذهابها في خدمة المجهود العسكري. كما طال التحسن الصحي تشكيل فرق صحية لقتل الأفاعي والحشرات والعقارب الخطيرة التي كانت تسبب في وفاة عدد كبير من الأشخاص سنوياً.
ورثت جماعة مصطفى كمال هذا الاهتمام كساحة من ساحات إعادة تشكيل المجتمع. وتم التدخل عبر فرق صحية متجولة في المدن والأرياف، حتى في طريقة تحفيض الأطفال.
كانت الإجراءات الصحية بالنسبة للدائرة العليا من القرار اختباراً لقدرة الدولة على التوغل في المجتمع. بالنسبة للاتحاديين، لم تكن توجد فرصة سانحة أكثر من المجال الصحي لكسر المقاومة الاجتماعية في كردستان ضد الحكم الجديد (الانقلابي).
إن الدراسات النادرة التي تناولت بشيء من التفصيل المجال الصحي، مثل دراسة الباحث الكردي الديرسمي، أوغور أوميت أونغور، عن جماعة الاتحاد والترقي، تحدثت عن اختراق مهم قام به الاتحاديون من باب "المجتمع الصحي"، ذلك أن هذا الشكل من التدخل – بحسب أونغور – لم يكن في العمق لغرض صحي في الواقع، بل رمزاً لرؤية النظام الصارمة للحداثة، وجسدت جرعة عالية من التفكير الحداثوي الشمولي بين النخب السياسية وكرست بشكل كامل لإعادة هندسة المجتمعات، من تخطيط المدن إلى بول الطفل".
خلال السنوات الأولى من الجمهورية التركية، باتت المسألة الصحية ميداناً لإظهار "القلب الكبير للجمهورية" الذي يتسع حتى لأولئك الذين دعموا في السابق التمرد على الدولة المتحكمة بشكل كلي بالصحة العامة للسكان.
ففي حملات التهجير التي طالت الأرمن ثم الكرد، كان المهجرون يتساقطون على الطرق وتترك جثثهم مكشوفة. وحين كان السكان يطالبون بمركز صحي (مستوصف)، فإن ديكور المركز نفسه من الداخل والخارج، مصمم لإعلان انتصار "الأمة التركية"، من الشعارات إلى صور مصطفى كمال إلى لغة التخاطب التركية.
إنّ التحرر من هيمنة أي حكومة لن يكتمل، وسيكون سابقاً لأوانه، إذا لم يكن النظام الصحي في الجزء "المحرر" أكثر تقدماً من المركز، أو على الأقل مساوياً له في مستوى الخدمة. هذا ما نجح فيه إقليم كردستان العراق، وليس واضحاً إلى أي مستوى وصلت الإدارة الذاتية في هذا المجال.