حسين جمو
حين تم الإعلان عن تأسيس الجمهورية التركية عام 1923، كانت البلاد الجديدة، الرشيقة جغرافياً، قد تخلصت من خطر وجودي يتهدد كلاً من الدولة والعنصر التركي.
وجاء إعلان التأسيس بعد انتصارات عسكرية وسياسية تحققت لتركيا الجديدة.
والقول إن الانتصارات "تحققت لتركيا" وليس "حققت تركيا"، ليس تذاكياً لغوياً بقدر ما يعكس طبيعة نجاة الدولة نفسها من الانهيار بفعل عوامل خارجية أكثر منها داخلية، فسرعان ما حظرت بريطانيا على اليونان دخول إسطنبول، وسمحت لقوات مصطفى كمال بسحق القوات اليونانية المتوغلة غرب الأناضول التاريخية، كما أنها رابطت في إسطنبول لمنع روسيا من التقدم إلى المدينة التاريخية، درة التاج الأرثوذكسي عبر التاريخ.
في النهاية تأسست دولة أمكنها كتابة التاريخ كيفما تشاء، وكي لا يكشف الآخرون أدوارهم فإنهم سمحوا للرواية التركية بأن تسود، ودعموها.
مع هذه الانتصارات، لم تعكس خطابات وسلوكيات قادة الجمهورية في السنوات الأولى بعد التأسيس ما يدفع إلى الاعتقاد أنهم كانوا سعداء بما تحقق وما حققوه، وذلك رغم الصناعة الاحتفالية الضخمة بروزنامة الأحداث الجديدة المعتمدة في الجمهورية.
خلال السنوات الأولى، أو على نحو أكثر دقة، حتى وفاة مصطفى كمال عام 1938، تعايشت تركيا مع ثلاثة مخاطر كبرى تحولت إلى هواجس بعد هذه المرحلة، أي أن هذه المخاطر تحولت إلى وساوس نفسية مع عصمت إينونو ثم الحزب الديمقراطي حتى عام 1960، ما استدعى إجراءات استباقية دموية عكست حقيقة ناصعة، وهي أن العالم يمكن أن ينسى أن إسطنبول كانت يوماً ما هي القسطنطينية، وأن جنوب شرق الأناضول هي كردستان وأرمنستان، لكن تركيا، بطبقتها السياسية الحاكمة لا تنسى ذلك، وهذا ما أعاق – ولا يزال يعيق- كل مبادرات الحل حتى اليوم.
تمثلت المخاطر الثلاثة في ما يلي:
- إمكانية استعادة القسطنطينية من قبل قوة أرثوذكسية (روسيا – اليونان).
- تأسيس دولة أرمنية برعاية غربية وعودة اللاجئين الأرمن.
- تأسيس دولة كردية في شمال كردستان.
مع ترسيخ الجمهورية لوجودها بشكل نهائي، إثر ضم لواء الإسكندرون إلى تركيا، ثم وجودها في صف المنتصرين في نهاية الحرب العالمية الثانية رغم عدم دخولها الفعلي إلى الحرب، زال الخطران الأول والثاني، لكنهما تحولا إلى وساوس سياسية وكوابيس حزبية باتت مع الزمن تحتل مكانة متقدمة في برامج أحزاب تركية، على غرار حزب الحركة القومية، وهو حزب استثنائي كونه يعتمد رسمياً على الخرافات التاريخية التي يمكن سردها كنوع من التسلية أو في إطار دراسة الخيال الاجتماعي القديم.
وبالنسبة لموضوع الأرمن، باتت الجهود السياسية محصورة في منع دول العالم من الاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن.
مسألة تاريخ لا أكثر رغم ما يُحكى هنا وهناك ، خصوصاً في أوساط الأرمن، عن تعويضات وإعادة تصحيح للوضع.
أما الخطر الثالث، الكردي، وفق الذهنية التركية، فقائم في الواقع وله ممثلون ويمتلكون قوة مسلحة وشبكة اجتماعية وثقافية متينة، داخل تركيا وخارجها.
هيمنت المخاطر الثلاثة على بنية السياسات التركية منذ تأسيسها، رغم أنه في العلن، هي أقل الملفات التي يتم طرحها.
وحتى قبل سنوات قليلة كان محظوراً نشر أي مادة تحتوي على كلمة الأرمن أو الكرد، ويعاقب القانون حتى التلميح إلى أن "شيئاً ما" حدث للأرمن.
في بداية الستينيات، انشغلت الطبقة المهيمنة على الحكم، والمؤلفة من عدد من الأحزاب المؤسسة على فكرة الاستمرار في الخطأ المتمثل في بناء دولة أمة في مساحة جغرافية ليس فيها شيء تاريخي للأتراك، وإذا ما أخذنا في الاعتبار أن العنصر التركي موجود منذ مئات السنين، فإن مناطق وجودهم لا تتجاوز 60% من مساحة تركيا الحالية.
في تلك الفترة، أي الستينيات، ظهر التحدي الشيوعي الذي تغلغل بين قطاع واسع من الفئات المطرودة من الدولة الأمة (الطورانية المطعّمة بالتراث المذهبي الحنفي)، وفي المقدمة (التركمان القزلباش – الكرد – العلويون العرب).
والشيوعية كانت تحدياً للدولة وأحزابها وليست خطراً وجودياً، ذلك أن كل حزب نظر إلى هذه الأيديولوجية من منظور المخاطر الثلاثة أعلاه.
الإسلاميون اعتبروا أنه في حال تمكن الشيوعية في تركيا فإن النتيجة ستكون ليس فقط الإلحاد، بل غطاء لإعادة تركيا إلى المسيحية، وهذه المزاعم يمكن العثور عليها في كتابات أحمد الأرواسي، المنظّر الإسلامي داخل حزب الحركة القومية. فيما تعامل معها فتح الله غولن كنزعة تهدف لتدمير أسس الأمة التركية (ولديه مقالات وخطب تعود للسبعينيات تتحدث كثيراً عن خطر الإلحاد واستمالة الشيوعية لفئات مغرر بها – ملمحاً إلى العلويين والقوميين الكرد)، فيما كانت أحزاب يمين الوسط أكثر صراحة في اعتبار أن الشيوعية ستجلب معها خطر تفكيك تركيا.
خلال التسعينيات، لم يبق من المخاطر الماثلة سوى حزب العمال الكردستاني، وبشكل أوسع، كل من يمثل القضية الكردية.
بنت الدبلوماسية التركية مذّاك، رصيداً من المكاسب وامتلكت الكثير من الأوراق، التجارية والزراعية والمذهبية، ووضعتها في خدمة القضاء على "الخطر الأخير".
كافة الصفقات التركية على الصعيد الاقتصادي، لها أسس سياسية وأمنية محددة، تتمثل في عدم إتاحة الفرصة لتقاطع أي دولة أو منظمة حقوقية مع عملياتها العسكرية واقتلاع السكان في كردستان الشمالية (أو ما يسمى جنوب شرق الأناضول)، وهو مسار تم تجديده مطلع التسعينيات، ووضعت رصيد نجاحاتها منذ تأسيس الجمهورية لإبقاء القضية الكردية في صندوق مغلق.
مع تمكن أردوغان من السلطة، وإزاحته منافسيه الداخليين، منذ مطلع العام 2014، جرى تدشين مرحلة جديدة ضد الخطر الأخير، الكردي.
طيلة الحقبة السابقة لأردوغان كان محور اهتمام الدولة هو إبقاء الصندوق مغلقاً على الكرد. أردوغان فتح الصندوق وبات يحشر فيها الكرد الآخرين، الناجين من تركيا، في روجآفا وشمال شرق سوريا، وكذلك في شنكال وقنديل بإقليم كردستان العراق.
كل الرصيد التاريخي لتركيا يتم استنزافه حالياً في خدمة هذا الهدف، ملء الصندوق بأكراد الدول المجاورة ثم إغلاقه مجدداً مع الزعم أنه لا يوجد صندوق أصلاً. هذا ما يجري في عفرين وفي سري كانيه (رأس العين) وكري سبي (تل أبيض). انتقاء السكان الكرد وطردهم من كل متر مربع حتى لو كان منهم موالون وعملاء لها.
تركيا كدولة لديها العديد من الملفات المهمة والحيوية، ولن يكون منطقياً القول إن الملف الكردي هو فقط ما يحركها، إنما الأمر هنا أنه لا يوجد أهم من هذا الملف في حال وُضِعت تركيا في موقف يفرض عليها إجراء مقايضة من أي نوع كان.
هذا هو الاختبار الفعلي للسياسة التركية وللعقل الخفي لها رغم تسويقها عبر كتّاب وأكاديميين، عرب وغربيين، بسعة اهتماماتها الحيوية وأن الملف الكردي ليس سوى جزء غير محوري من مشاغل وهواجس هذه الدولة العظيمة! الاختبار الحقيقي يكمن في هذه المسالة الرياضية: المقايضة.
هل لديها شيء أو مدينة أو صفقة تتجاوز قيمتها حتى مدينة كردية صغيرة مثل رأس العين؟ أو منطقة مثل عفرين؟ هذا السؤال يمكن أن يصبح تمريناً للمهتمين بالشأن التركي، وكذلك لمن يعتقد أن تركيا يمكن أن تتورط في حرب نهائية ضد روسيا في إدلب.
إدلب ليست مهمة لتركيا ولا تشكل أي قيمة سياسية أو اقتصادية لها، وأهميتها، في ميزان الأجندة التركية وأولويات أمنها القومي، أقل بكثير من أهمية إعزاز أو جرابلس أو الباب.
أي من هذه المناطق الثلاث، كل على حدة، أكثر أهمية للأمن القومي التركي من إدلب وما فيها، بشراً وحجراً. فوجودها في المناطق الثلاث المذكورة، منذ عام 2016، يفوق أهمية إدلب، بغض النظر عن الضخ الحالي الإعلامي الذي يعطي صورة غير دقيقة عن أولويات الأمن القومي التركي.
أما الأسباب التي تفسر تمسك تركيا بإدلب، فعديدة، لكن أياً منها لا تعطي تفسيراً حاسماً ومقنعاً في سياق ربطها بالمسارات البنيوية لتأسيس السياسات التركية، منذ 100 عام. تركيا لم تخاطر مطلقاً هذه المخاطرة ضد روسيا حتى خلال سيطرة النظام على حلب. ولا داعي للمقارنة بين حلب وإدلب، اقتصادياً وسكانياً وسياسياً، وحتى من حيث التاريخ المرتبط بتركيا، لا مجال لمقارنة محورية حلب في الخيال السياسي التركي بإدلب.
إذاً، ما الذي تغير حتى تضع أنقرة نفسها في وجه قوة امبراطورية حديثة مثل روسيا؟
وفق تراكم الخبرة التاريخي كردياً، هناك خلاف بين الطرفين على المقايضة. تركيا يبدو أنها لا تقبل ما تعرضه روسيا عليها مقابل إدلب، وربما أنها لم تعرض شيئاً على الإطلاق، وهو الأرجح بالنظر إلى المخاطرة التركية العالية، مخاطرة أسبابها المعلنة لا تمت بصلة للعقل السياسي التركي وأولوياته. الاندفاع التركي الطائش في إدلب مرتبط بسعيها لصفقة مقايضة، وروسيا لم تطرح المقايضة هناك حتى اليوم على الأقل.
تركيا تريد شرق الفرات. استكمال تحويل كل متر من أرض يملكها كردي إلى مشروع استيطاني. تريد المناطق الواقعة تحت الحماية الروسية في تقاسم النفوذ الدولي، لأن المنطقة الأمريكية شرق الفرات "مضمونة" تقديمها لتركيا في ظل تراجع نفوذ البنتاغون في سوريا لصالح وزارة الخارجية برعاية سياسي ذو عقلية هرمة في السياسة، جيمس جيفري.
في الأيام القليلة الماضية، كان هناك حادث مريب. سرّب الإعلام التركي، عبر المخابرات التركية بالطبع، أن حريقاً حدث في سجن إيمرالي، وفيها الزعيم الكردي الأسير عبدالله أوجلان.
ولأنقرة واستخباراتها تاريخ طويل في بث الأخبار المضللة من هذا النوع، لغايات يمكن توقع بعضها. ففي التسريب الأخير بخصوص الحريق، وباعتبار أن جهاز "ميت" الاستخباراتي أكثر جهاز أمني في العالم يفهم الشخصية الكردية النمطية، فإن الخبر سيسبب بلبلة في أوساط أنصار أوجلان، وبما أنه لا ساحة متاحة لأنصار أوجلان التظاهر فيه سوى أوروبا ومناطق قوات سوريا الديمقراطية، فالغاية باتت واضحة، ولا حاجة لسرد بقية القصة المعروفة. هناك تمهيد تركي لصفقة مقايضة مأمولة بالنسبة لأردوغان، يمكنه فيها بيع إدلب بقرية من قرى كوباني أو منبج.
وهذا ليس تبخيساً لإدلب بقدر ما هو قراءة في محددات ما يسمى "الأمن القومي التركي". المسألة تكمن في البحث عن سعر مقبول لإدلب، بالتذرع باتفاق سوتشي والطريق الدولي، إلى ما هنالك من مصطلحات فارغة ليست سوى للثرثرة الإعلامية.
طيلة القرن التاسع عشر، وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى، لم تكن هناك أية صفقة مقايضة بين الطرفين، الروسي والتركي، خلال الحروب الأربعة الكبرى التي جرت بينهما (1828 – 1853 – 1877 – 1914)، فالمقايضة اشتهرت بين الخصوم المنتمين لدائرة حضارية واحدة، تحديداً بين بريطانيا وفرنسا وإيطاليا.
غداً الخميس، يزور أردوغان موسكو، وإذا ما تم ضبط التناقض الروسي التركي على درجة معينة من الصدام لا تؤدي إلى انهيار العلاقات، وتجاوز الطرفين ميراث الحروب الأربعة الكبرى، واستئناف مرحلة المقايضات، فإن المرحلة التالية ستشهد مقايضة دموية جديدة. شيء مقابل شيء. أرض مقابل أرض. مجزرة مقابل مجزرة. تهجير مقابل تهجير.