د. أحمد يوسف
تستمر الانعكاسات البيئية للنشاطات الاستثمارية على الصعيد العالمي بالتفاقم مع تطور أدوات الإنتاج، وترتفع مستويات خطورتها لتبلغ حدوداً تهدد البشرية قاطبةً، ولا سيما في ظل لبرلة الاقتصاد العالمي في مرحلة ما بعد انهيار نظام القطبين الذين سادا العالم خلال القرن الماضي، ولا تسعى الدول العظمى والمنظمات الدولية عموماً إلى البحث عن الآليات التي تحد من ظاهرة التدهور البيئي المترافق مع التنمية الاقتصادية الساعية إلى تعظيم الأرباح بالطرق المختلفة. ولقد تحولت هذه الظاهرة إلى قضية عالمية معقدة تحمل تناقضاتٍ كثيرة تحول دون معالجتها.
تفاقم الأزمة والمبادرة العالمية الأولى
لقد ظهرت بوادر الاهتمام العالمي، عبر المؤسسات العالمية، بالقضية البيئية، في العام 1972م. وذلك بعد تفاقم الأزمة التي أدت إلى تدهور البيئة بفعل التطورات الاقتصادية المتسارعة بعد الثورة الصناعية في القرن السابع عشر، وركزت معظم الدراسات البيئية اهتماماتها على الأسباب المباشرة لتلوث البيئة والبحث في آليات معالجتها دون المساس بطبيعة النظم السياسية التي تحدث في ظلها هذه الكارثة الطبيعية تحت تأثير تعاظم قوى الإنتاج وتوجهها نحو الاحتكار.
لقد أدت معالجة القضية البيئية من منظور تحقيق التوازن بين العوامل المؤدية إلى التلوث والعوامل الكابحة لها، إلى الوقوع في تعقيدات القضية الاقتصادية التي يقر الكثير من الاقتصاديين بتناقضها مع القضية البيئية. وتفرض هذه الرؤية على جميع دوائر الاهتمام إجراء المقارنات بين أهمية كل من جانبي العلاقة الاقتصادية– الإيكولوجية المتناقضة، والتي غالباً ما تكون لمصلحة الجانب الاقتصادي الذي يدر الأرباح للقوى الفاعلة في المجتمع والمسيطرة عليه.
تثير الرؤية السابقة في معالجة القضية الاقتصادية– الإيكولوجية تساؤلاً عن جوهر المشكلة الإيكولوجية، وتُوجهنا نحو البحث بأساليب مختلفة في حيثيات هذه القضية المعقدة، أساسها التوجه نحو العمق التاريخي لمسببات ظهورها في سياق التطور التقني، والتي تبدو أنها ليست وليدة السياسات الاقتصادية للقرنين الأخيرين، اللذين تميزا بتسارع تطور أدوات الإنتاج، بما لهما من آثار بيئية سلبية طفت إلى السطح نتيجة العوامل المساعدة لظهورها، وخاصةً في النصف الثاني من القرن العشرين.
إذا كان الاهتمام بالقضية البيئة مدرجاً في جدول أعمال المنظمات الدولية المختصة اعتباراً من سبعينيات القرن الماضي، فإن معاناة القضية هي أقدم من ذلك التاريخ، ويمتد إلى عدة قرون سبقت الميلاد، ويعود تحديداً إلى بدايات المدنية والأجواء الإشكالية التي تشكلت فيها المدائن السومرية، حيث تطورت ظاهرة الاستعباد من جهة، وبرزت القضية الاقتصادية المتعلقة بمعرفة الجهات المسؤولة عن المقايضة والأسعار من جهةٍ أخرى. تؤكد الأحداث الدامية التي شهدتها القارة الأوربية بعد الثورة الصناعية أن تلك الثورة عملت بكل جهدها على وأد الحياة في الريف من خلال القضاء على الحياة الحرفية والزراعية فيه، وذلك لمصلحة تنامي المدن الأوروبية، التي أدت إلى ولادة الكوارث البيئية عبر استهلاك المجتمع الريفي.
نستطيع الجزم بأن القضية الإيكولوجية هي قضية اجتماعية، عندما ندرك حقيقة أنها ولدت نتيجة صراعات طويلة بين المدن نفسها من جهة، وبينها وبين الريف من جهةٍ أخرى، إذ أن منطق احتكارات السلطة والاستغلال في الربح والحروب الإيديولوجية والعسكرية التي شنتها في سبيل ذلك، إنما هي إيكولوجية مضادة وبيولوجية مضادة ومجتمعية مضادة. (عبدالله أوجالان، مانيفستو الحضارة الديمقراطية، ص: 65).
ثنائية التوافق والتضاد بين الاقتصاد والبيئة
أثبت النظام الرأسمالي على الطبيعة المتناقضة بين مفهومي الاقتصاد والبيئة، إلا أنه ظهرت من رحم النظام ذاته مدارس فكرية تؤكد على الطبيعة التكاملية بينهما. حيث يركز المحور الأول على الاقتصاد الربحي، إذ تؤكد المعطيات المتعلقة بالكوارث البيئية على الصلة الوثيقة ما بين القضية الإيكولوجية والقضية الاقتصادية. فلم تشهد البيئة تراجعاً إلا مع تطور النظم الاقتصادية الاستغلالية. كالنظام العبودي في المدن السومرية الذي مهد السبيل أمام تملح الأراضي بسبب استخدامها الدائم بهدف الربح. وأدت الثورة الصناعية إلى تغطية سماء المدن بالضباب الناجم عن عوادم المنشآت الإنتاجية.
بينما يركز المحور الثاني على التكامل الاقتصادي والبيئي، وتركز النشاطات الاقتصادية المندرجة في هذا المحور على تنمية القطاعات الاقتصادية ذات الأثر الإيجابي في البيئة أو القطاعات التي لا تشكل خطراً على البيئة، وتكون السمة المميزة للاقتصاد في هذه الحالة هي انتمائها إلى الفعاليات المجتمعية لتأمين حاجات الإنسان دون السعي إلى تعظيم الأرباح، وبالتالي تحقيق ترابط عضوي ما بين المجتمع والبيئة المحيطة به.
نظراً لصعوبة تحقيق التكامل العضوي بين المجتمع والبيئة عبر السياسات الاقتصادية بصورة كاملة، فإن هذا المحور يكون أقرب إلى الحالة النظرية، وذلك لأن النشاطات الاقتصادية بمعظمها تترك آثاراً سلبية على البيئة، وهنا يأتي دور المجتمع في ترشيد السلوكيات الاقتصادية لتخفيض آثارها السلبية على البيئة، عبر تطوير الصناعات الصديقة للبيئة ومنع ظهور الاحتكارات، وجعل تلبية الاحتياجات المجتمعية هدفاً اقتصادياً عوضاً عن هدف تعظيم الأرباح.
إن سياق تطور القضية البيئية وعلاقتها بالتنمية الاقتصادية يفرض طرح سؤالٍ يفيدنا في معالجة العلاقة المتناقضة ما بين الربحين المادي والاجتماعي على النحو التالي:
هل يجب التضحية بالربح المادي لتعظيم الربح الاجتماعي؟ وما هي قدرة المجتمع على الاستمرار في التضحية بالربح المادي للاستمرار في تحقيق الربح الاجتماعي؟.
تمتلك نظرية الحداثة الديمقراطية رؤية مختلفة في العلاقة بين الربحين، إذ أنها تنظر إليها من زاوية تعظيم المنفعة الاجتماعية عبر آليات تعظيم القيمة الاستعمالية بالشكل الذي يؤدي إلى تلبية الحاجات المجتمعية، ويمكن ملء الفراغ الناجم عن عدم قدرة القيمة الاستعمالية المتعاظمة على تلبية الحاجات المجتمعية من خلال الاعتماد الجزئي على القيمة التبادلية، وبالتالي فالنظام الاقتصادي الذي تسعى نظرية الحداثة الديمقراطية إلى تطبيقه لا يمنع الإنتاج في إطار تحقيق التوازن بين الحاجات الاجتماعية والموارد التي تلبي تلك الحاجات. إن هذه الحالة تلغي ضرورة التضحية بأحد طرفي المعادلة (الربح المادي =الربح الاجتماعي)، لأن الربح المادي ليس هدفاً قائماً بذاته، وبالتالي تلغي هذه النظرية معادلة تعادل الربح المادي مع الربح الاجتماعي، حيث يأتي الربح الاجتماعي كهدف اقتصادي وإيكولوجي أولي، بينما يكون الربح المادي مكملاً له.
البيئة ضحية اللبرلة الاقتصادية
يخلط بعض خبراء الاقتصاد ما بين النظام الرأسمالي الذي هو نظام سياسي ظهر منذ خمسة قرون في أوربا والسوق، الذي هو أقدم من ذلك بألاف السنين، حيث يرتبط وجود السوق بظهور عملية التبادل. يستند هؤلاء الخبراء على هذا الخلط في تبرئة النظام الرأسمالي من النتائج البيئية الكارثية للسلوكيات الاقتصادية للوحدات الإنتاجية. إذ يرى هؤلاء الخبراء أن ظهور القضية الإيكولوجية هي نتيجة "إخفاق السوق"، الذي يعتبر أمراً وارداً عند تطبيق السياسة الاقتصادية، وليس نتيجة سياسات منهجية يعتمدها النظام الرأسمالي في إطار قيامها بتعظيم الأرباح في دائرة منافسة مفتوحة بين وحداتها الإنتاجية.
تتفاقم القضية الإيكولوجية في ظل الاقتصاد الليبرالي الذي يفتح الأفق أمام استثمارات الشركات المتعددة الجنسيات على امتداد المعمورة بحثاً عن القيم الدنيا للتكاليف مقابل القيم العظمى للأرباح. تتعدد الأمثلة عن النتائج الكارثية للسلوكيات الاقتصادية للشركات العالمية في ظل المنظومة الليبرالية، حيث أن تدمير البيئة أصبحت السمة المميزة لشركات الصناعات الكيماوية وصناعة الإسمنت والأخشاب وغيرها، ولا يمكن تفسير التقلص الهائل في غابات أمازون إلا بسطوة الشركات المستثمرة للأخشاب بحماية النظم القانونية التي يضعها النظام الرأسمالي الليبرالي.