قبل اندلاع ما تسمى بـ(ثورات الربيع العربي)، كانت تركيا تعتمد استراتيجية التعاون وتطوير العلاقات مع النظم العربية لأسباب اقتصادية وسياسية بالدرجة الأولى، لكن بعدها سرعان ما قفزت تركيا عن هذه الاستراتيجية، واتجهت إلى البعد الايديولوجي من خلال تعميق العلاقات مع التيارات والحركات الإسلامية ولاسيما جماعات الإخوان المسلمين، إذ شجعت حكومة حزب العدالة والتنمية هذه الحركات والجماعات وفق منهج براغماتي لإيصالها إلى السلطة، حيث كانت جولة أردوغان إلى تونس وليبيا ومصر عقب الانتفاضات الشعبية التي شهدتها هذه البلدان إيذاناً بالتنبي التركي الرسمي لهذه الحركات، والاعتماد عليها لتغيير بنية المجتمعات العربية وقلب الطاولة على الأنظمة، وقد انطلقت تركيا في هذه السياسة من فرضية أن التطورات الدراماتيكية التي تشهدها دول العالم العربي ستؤدي إلى تحقيق المشروع التركي الإقليمي الذي يقوم على مركزية وهيمنة وقيادة تركيا للمنطقة، وعليه فُتحت أبواب تركيا لانتقال معظم قيادات الجماعات الإسلامية المتشددة إليها حيث تحولت إسطنبول إلى ما يشبه غرفة عمليات لهذه الجماعات في إدارة نشاطاتها العسكرية والسياسية والحزبية والإيديولوجية والإعلامية، ومع أن المشروع الإقليمي التركي تعرض لضربة كبيرة مع سقوط حكم مرسي في مصر إلا أن أردوغان واصل سياسة الرهان على جماعات الإخوان المسلمين لتحقيق مشروعه الإقليمي، ولعل، هذا ما يفسر العلاقة العضوية القائمة بين تركيا وحكومة الوفاق في ليبيا، وكذلك العلاقة الوظيفية مع حركة النهضة بزعامة راشد الغنوشي في تونس، فضلاً عن احتضان تركيا لجماعات الإخوان في كل من سوريا والعراق ومصر وغزة .. وغيرها من الدول والمناطق التي ترى تركيا أنها تدخل في الإطار الجغرافي لمشروعها الإقليمي.
في الواقع، أدت الاستراتيجية التركية السابقة تجاه العالم العربي إلى مجموعة من المعطيات الصدامية في العلاقة التركية – العربية، لعل أهمها:
1- تحول تركيا إلى مصدر رئيسي للجماعات الإرهابية والمتشددة التي تعتمد العنف، ولعل نظرة بسيطة إلى ما يجري في سوريا وليبيا وسيناء بمصر والصومال … تضعنا أمام حقيقة الدور التركي في نشر العنف والجماعات الإرهاببة في العالم العربي.
2- اختراق تركيا لبنية العديد من الدول العربية عبر الوسائل العسكرية والإيديولوجية والمساعدات والشعارات الأخلاقية والإنسانية، إذ باتت لها قواعد عسكرية في قطر وليبيا والصومال، كما أن لها جماعات سياسية باتت تجاهر علناً بالدعوة إلى الأخذ بنموذج حزب العدالة والتنمية في الحكم دون ملاحظة أن هذا الحزب الذي وعد بالتوفيق بين الإسلام والعلمانية والاقتصاد تحول إلى حزب شمولي حاكم يديره ويتحكم به رجل واحد هو أردوغان.
3- تعرض المجتمعات العربية إلى حالة من الانقسام السياسي والمجتمعي، بسبب لجوء جماعات الإخوان المسلمين إلى وضع الإيديولوجية فوق أي اعتبار، وفوق المصالح الوطنية وإقامة دولة مدنية، وهو ما يهدد هذه المجتمعات بالانزلاق إلى حروب داخلية طاحنة، كما هو الحال في ليبيا وما يحضر لكل من تونس والجزائر، حيث باتت تونس مرشحة للانفجار بسبب النهج الذي يعتمده الغنوشي في العلاقة مع كل من أردوغان والسراج، وتصرفه وكأنه رئيس للدولة دون أي اعتبار للدستور، وهو ما دفع بالرئيس التونسي قيس سعيد إلى تحذيره وإلى ارتفاع الأصوات المطالبة بمحاسبته أمام البرمان ورفع الحصانة عنه تمهيدا لمحاكمته، وبغض النظر عن مآل هذه الدعوات، فان تونس باتت أمام صيف ساخن بسبب ما يقوم به الغنوشي لصالح مشروع أردوغان في منطقة المغرب العربي.
4- الصدام مع الدول العربية مثل السعودية ومصر والإمارات… ، إذ أن هذه الدول التي تحرص على النظام الرسمي العربي في مواجهة التحديات الإقليمية بدأت تخشى من المشروع الإقليمي التركي الذي بات يستهدف بنية أنظمة هذه الدول، وسط استحضار البعد الإيديولوجي والمنافسة على الساحات والنموذج السياسي والاجتماعي الذي ينبغي الأخذ به.
5- بدء تحول المشروع التركي تجاه العالم العربي من البعد الإيديولوجي إلى الاستعمار المباشر، فتركيا باتت عملياً تحتل بشكل مباشر مناطق واسعة من شمال شرقي سوريا ومن شمال العراق وإقليم كردستان، كما أن التحرك التركي نحو ليبيا يحمل مطامع استعمارية واضحة لها علاقة بالطاقة في المتوسط والسيطرة على مقدرات الشعب الليبي واستخدام ليبيا كقاعدة للتوسع في منطقة المغرب العربي، وسياستها في إفريقيا والخليح لها علاقة بالسيطرة على التجارة والمعابر والزراعة وبيع السلاح وغيرها من الأدوات التي تستخدمها تركيا لتقوية نفوذها في طريق تحقيق مشروعها. 6 – بموازاة المساعي التركية السابقة، تمضي جماعات الإخوان المسلمين في وضع الإسلام السياسي في مواجهة الدولة المدنية في العالم العربي وتمنع التحول نحو الديمقراطية، إذ بات لسان حال هذه الجماعات يقول: إما السير في إيديولوجيتي أو دفع البلدان العربية إلى الفوضى والانفجار، إذ أنها تغلب الإيديولوجية على كل ما هو وطن ودولة ومؤسسات، وهذا ما يريده أردوغان بالضبط، إذ أنه يجد في هذا السلوك مدخلاً لنشر الفوضى والوصول إلى بنية المجتعات وتكوين تنظيمات عسكرية تؤمن بالعنف بغية المضي في تحقيق مشروعه.
في الواقع، وضع أردوغان الدول العربية أمام تحديات مصيرية، فالثابت أن الرجل لن يتوقف عند ليبيا التي باتت ساحة مرتبطة بالساحة السورية حيث نقلُ المرتزقة والمسلحين والأسلحة قائم على قدم وساق، وهو ما يستدعي وحدة الجبهات في مواجهة المشروع الإقليمي التركي وأدواته، وإلا فإن الدول العربية ستجد نفسها أمام مشروعٍ تركي على حساب هذه الدول وسيادتها ومصيرها.