في ذكرى الإبادة الأرمنية تركيا.. من إبادة الأرمن إلى إبادة الكرد
105 سنوات على المجازر التي ارتكبت ضد الأرمن في عهد الدولة العثمانية، والقضية حية على شكل جرح أرمني مفتوح تنتظر اعتراف تركيا بها، وتحمل المسؤولية الإخلاقية والسياسية عنها. لدى الأرمن، وكذلك في أرشيف العديد من الدول، ولاسيما تركيا وبريطانيا آلاف الأدلة والوقائع والشواهد والوثائق التاريخية التي تؤكد وقوع مجازر إبادة ضد الأرمن وتهجيرهم من ديارهم وتجميعهم في أماكن صحراوية ومن ثم القيام بأعمال قتل جماعية على يد الجنود الأتراك بقرار من أعلى السلطات العثمانية، وعليه سعى الأرمن في الداخل والخارج، وبكل ما يملكون من أوراق قوة إلى جعل هذه القضية قضية وطنية مقدسة، حاضرة على أجندة المحافل الدولية، والعمل على كل المستويات من أجل إجبار تركيا على الإقرار بجريمة الإبادة هذه.
يقول الأرمن إن ذروة المجازر كانت في يوم الرابع والعشرين من نيسان / أبريل عام 1915، عندما أعدم الجنود الأتراك آلاف الأرمن في صحراء ديرالزور السورية بعد أن تم إبعادهم إلى هناك قسرا، حيث بات من المعتاد أن تتجه أنظار الأتراك والأرمن في كل عام إلى هذا اليوم، ليكون محطة توتر جديدة في العلاقات بين الجارين التاريخيين، ولعل ما يؤرق تركيا أكثر، ليست الفعاليات الضخمة التي ينظمها الأرمن في الذكرى السنوية للإبادة، بل المواقف الدولية وتحديدا الغربية منها والتي اتجهت إلى توصيف ما جرى بـالإبادة وما يترتب على هذا الإقرار من مسؤولية أخلاقية وقانونية وسياسية تترتب على تركيا.
مجازر أم إبادة؟
يقول الأرمن إن ما جرى ضدهم كانت إبادة منظمة، بعد أن اتهمتهم الدولة العثمانية بالخيانة والعمل لصالح روسيا التي كانت في حرب مع الدولة العثمانية لسنوات طويلة، فيما ترى تركيا أن ما جرى لم تكن إبادة بل أعمال قتل وقعت بسبب ظروف الحرب العالمية الأولى وانقلاب الأرمن ضد الدولة العثمانية، وأن الضحايا لم يكونوا من الأرمن فقط بل من الأتراك أيضا.
في وثائق الأرمن إحصائيات كثيرة تقول إن عدد ضحاياهم بلغ مليون ونصف المليون أرمني، وإن هؤلاء قتلوا من خلال أعمال حربية منظمة، عبر حملات اعتقال وتجميع وتصفية جسدية، فضلا عن هلاك كثيرين في المنافي بسبب الجوع والمرض، وأن عمليات القتل انطلقت بقرار من السلطات الاتحادية العليا، بدأت في البداية مع اعتقال النخب الثقافية والفكرية والاقتصادية في المدن الكبرى ولاسيما إسطنبول وتصفية العديد منهم، ومن ثم انتقلت عمليات القتل إلى الولايات الشرقية المجاورة لروسيا حيث الحرب معها، قبل أن تقوم السلطات بحملات تهجير واسعة للأرمن على شكل قوافل (بلغ عددها عام 1915 وحده /306/ قافلة مات الآلاف منهم في أثناء الرحلات) تحرسها القوات العثمانية، وتم ترحيل معظم هؤلاء إلى سوريا (دير الزور ورأس العين – سري كانيه) وشمال العراق وإقليم كردستان، وتضيف الوثائق أن قرابة /400/ ألف أرمني ماتوا في معسكرات الاعتقال بسبب الجوع والمرض والبرد وعدم وجود الماء والغذاء، فيما قتل أكثر من /300/ ألف معتقل في مجازر ارتكبها الجنود الأتراك (192 ألف في دير الزور، و/40/ ألف في رأس العين و/80/ ألف في إسطنبول و/10/ آلاف في أزمير ) كما قتل قرابة /500/ ألف في الولايات الشرقية، وحسب الوثائق الأرمنية لم تقتصر المجازر على المدنيين فحسب، بل طالت أيضا الجنود العثمانيين من أصل أرمني حيث صدر قرار بتجريدهم من السلاح في البداية ثم تصفيتهم وقد بلغ عددهم قرابة /120/ ألف جندي، ولم ينجو من المجازر سوى قرابة /700/ ألف أرمني من أصل أكثر من مليونين أرمني عام 1915، ومعظم الناجين هربوا إلى المناطق التي كان يسيطر عليها الجيش الروسي.
في المقابل، تقول تركيا إن عدد الضحايا كان قرابة ثلاثمئة ألف أرمني فقط ومثلهم من الأتراك، وأن حملات الترحيل التي جرت إلى الصحراء السورية وتحديدا محافظة ديرالزور لم يكن بهدف القتل بل كانت لحماية الأرمن بعد أن شاع جوا من العداء ضدهم في الدولة العثمانية بسبب خيانتهم وعمالتهم للروس، ويضيف هؤلاء أن ظروف الحروب هي التي كانت السبب الرئيسي في وقوع أعمال القتل هذه، وأن الأرمن أنفسهم ارتكبوا أعمال قتل ضد الأتراك والكرد في العديد من المناطق الشرقية بدعم روسي، وبين الروايتين الأرمنية والتركية تقدر تقارير المراكز والهيئات الدولية المعنية عدد الضحايا بأكثر من مليون أرمني، وتؤكد أن ما جرى كانت مجازر أعدت لها بقرار سياسي من أعلى السلطات في اسطنبول التي كانت عاصمة للخلافة العثمانية وقتها. ويرى كثيرون أن لارتكاب هذه المجازر بعدٌ اقتصادي، إذ أن الأرمن ولاسيما في إسطنبول كانوا من أهم أصحاب المال والأعمال والصناعة والتجارة، وقد تم التخلص منهم للاستيلاء على أموالهم وممتلكاتهم وبرعاية وموافقة من السلطات العليا. في الواقع، طوال العقود الماضية سعى الأرمن في الداخل والخارج إلى الإبقاء على قضية المجازر حية من خلال تنظيم فعاليات سنوية والتحرك في المحافل الدولية لإقرار الإبادة، واستند الأرمن في تحركهم هذا إلى قانون منع الإبادة الجماعية التي أقرتها الأمم المتحدة عام 1951 ووضعتها تحت بند القانون الدولي، وكثيرا ما يقارن الأرمن بين ما جرى لهم من مجازر والمجازر التي ارتكبت في رواندا وكمبوديا وليبيريا ويوغسلافيا وألمانيا..، وهم يرون أنفسهم على خطى الاعتراف الدولي بالمجازر التي ارتكبت ضد التوتسي في راوندا ويسعون إلى الحصول على إقرار مماثل بخصوص الإبادة الأرمنية، لكن اللافت هنا، هو أن الأرمن لا يطالبون فقط الإقرار بفعل الإبادة كجريمة وتحميل تركيا المسؤولية وإنما المطالبة بحقوق تاريخية داخل تركيا الحالية على اعتبار أنهم يرون أن لهم أراض داخل الأراضي التركية والتي تسمى بأرمينيا الغربية حيث رموزهم التاريخية والدينية، إذ تقول التقارير الأرمنية إنه قبل المجازر كانت هناك أكثر من ألف كنيسة أرمنية داخل تركيا في حين لم يتبق منها اليوم سوى /98/ كنيسة.
أبعاد سياسية في قضية مفتوحة
ربما لم تكن أنقرة تتوقع حجم الاعتراف الدولي بالإبادة الأرمنية، ولاسيما اعتراف الكونغرس الأمريكي، وكذلك قرار البرلمان الأوروبي بهذا الخصوص، وهو ما أدى إلى المزيد من التوتر في العلاقات التركية – الأوروبية والأمريكية، حيث باتت قضية الاعتراف الدولي بالإبادة الأرمنية تشكل تحديا صعبا للدبلوماسية التركية وفي الوقت نفسه نجاحا مستمرا للدبلوماسية الأرمنية، خاصة وأن تركيا بدأت تحس بوطأة مسلسل اعتراف العديد من الدول الغربية بالإبادة، حيث بلغت عدد الدول التي اعترفت بالإبادة حتى الآن /32/ دولة، فضلا عن عشرات المنظمات والهيئات الدولية، بما في ذلك الأمم المتحدة والبرلمان الأوروبي ومجلس الكنائس العالمي، وهي تحس في العمق بأن مسلسل الاعتراف هذا يشكل نجاحا للوبيات الأرمنية في الخارج ولاسيما في الولايات المتحدة، وفي الجوهر ترى تركيا أن مسلسل الاعتراف الدولي يأتي لدفعها إلى الاعتراف بارتكاب جريمة إبادة تقول إنها لم ترتكبها، خاصة وأن تركيا أقرت القانون (301) الذي يجرم الاعتراف بالمجارز التي ارتكبت خلال عهد الدولة العثمانية، لكن المفارقة هنا، هي أن تركيا في ظل كل هذا، تتجه من جديد وبقوة إلى إحياء الهوية العثمانية لتركيا رغم أن ذلك يسبب لها الكثير من المشكلات التاريخية والجغرافية والسياسية والايديولوجية مع دول الجوار والعالم. في الواقع ، ثمة إحساس لدى الأرمن ومن يؤيد قضية وقوع الإبادة أن تركيا حاولت منذ البداية الالتفاف على هذه الجريمة من خلال مسارات ومستويات متعددة، لعل أهمها:
1 – وضع جريمة الإبادة في إطار أعمال القتل خلال المعارك التي جرت في أثناء الحرب العالمية الأولى في محاولة للتهرب من تبعات الاعتراف بجريمة الإبادة مع أن الوثائق التاريخية تؤكد أن الإبادة حصلت وفقا لسياسة مدروسة مسبقا، وقد تجلى هذا الأمر بشكل واضح في حملات استهداف المثقفين الأرمن ونتاجاتهم الفكرية والأدبية والثقافية قبل أن تتحول إلى حملة اعتقالات جماعية وجمع الأرمن في معتقلات ومن ثم ترحيلهم إلى الصحراء وارتكاب أعمال القتل الجماعي.
2- محاولة خلط الأوراق من خلال القول إن الضحايا هم ليسوا من الأرمن فقط بل من الأتراك أيضا، ووضع الأمر في خانة خيانة الأرمن للباب العالي، بالقول إنهم تعاونوا مع الروس خلال فترة الحرب، وأيضا من خلال تقليل أعداد الضحايا وذلك بالقول إنهم لا يتجاوزن ثلاثمئة ألف أرمني مع أن الوثائق التاريخية تشير إلى أن عدد الضحايا بلغ قرابة المليون ونصف المليون أرمني .
3- محاولة محو الذاكرة الأرمنية وآثارهم وأماكنهم الدينية وهويتهم الحضارية، إذ تشير التقارير إلى أن السلطات العثمانية مارست إلى جانب الإبادة البشرية الإبادة الثقافية، إذ أنها ركزت على محو النتاج الثقافي والفكري والروحي، وبسبب هذه السياسة شهد الوجود الأرمني نوعا من الإبادة والمحو، حيث اضطر العديد من الأرمن إلى تسجيل أنفسهم كأتراك تجنبا للتصفية والعقوبات والحصار والقهر.
هذه السياسة التي اتبعتها تركيا ضد الأرمن وغيرهم من الشعوب والأقليات القومية والدينية ربما أفلحت في الحد من حيوية الشعوب وقدرتها على التعبير عن نفسها وهويتها وتاريخها وجغرافيتها لفترة ما، لكن التاريخ يثبت أن الجرح المفتوح وقوة الإرادة وحقائق التاريخ والجغرافية، كانت أقوى من هذه الإجراءات الاستبدادية، فقد نجحت الأمة الأرمنية رغم كل ما تعرضت له من إبقاء جريمة الإبادة حية وذلك من خلال الوقائع التالية :
1- لقد نجح الأرمن في نقل قضية الإبادة إلى المحافل الدولية وجعلها مدرجة على برلمانات معظم دول العالم.
2– أن أرمينيا نجحت في دفع تركيا إلى التفاوض بشأن قضية الإبادة، وهو ما تجلى في اتفاق ذريوريخ عام 2009 قبل أن يتم تجميد الاتفاق بعد أن ربطت تركيا فتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين بشروط جديدة، منها قضية الصراع بين أرمينيا وأذربيجان على إقليم ناغورني قره باغ. 3- أن الأرمن نجحوا في كسب صداقات العديد من الشعوب والدول وجلب التعاطف مع قضيتهم، بما في ذلك من قبل حركة المجتمع المدني في تركيا حيث بدأنا نشهد حركة داخلية تركية تدعو إلى الاعتراف بجريمة الإبادة. 4- أن حركة اعتراف العديد من الدول بجريمة الإبادة وضعت تركيا في حالة توتر في علاقاتها مع هذه الدول، ومعروف تهديدات أرودغان بسحب السفراء من الدول التي تعترف برلماناتها بجريمة الإبادة.
أمام التقدم الذي يحققه الأرمن لجهة جلب اعتراف دولي بجريمة الإبادة، من الواضح أن الحكومة التركية تحاول بشتى الوسائل الالتفاف على الاعتراف بجريمة الإبادة من خلال الوقائع الآتية:
1- أن عقلية أردوغان وثقافته العثمانية لا تشيران إلى تغير في جوهر الخطاب التركي الذي يقوم على إنكار الجريمة، وهذه العقلية هي تعبير عن استمرار القمع وسياسة الإقصاء تجاه الشعوب والأقليات القومية والدينية. 2- أن دعوة أردوغان إلى تشكيل لجنة من المؤرخين لبحث القضية، وترميم بعض الكنائس والحديث عن المعاناة المشتركة وغير ذلك من الخطوات الشكلية تأتي في إطار محاولات تبسيط القضية والالتفاف عليها.
3- محاولة شراء مواقف الدول وحتى ابتزاز الدول وتهديدها لمنعها من إقرار جريمة الإبادة، وهنا سلاح أردوغان في ذلك هوعقد الصفقات وممارسة الابتزاز السياسي، كما هو حال إثارته قضية ما ارتكبته فرنسا في الجزائر كلما تحدثت فرنسا عن الإبادة الأرمنية.
في الواقع، رغم كل الاجراءات التركية السابقة، يمكن القول إن الأرمن نجحوا إلى حد كبير في إدارج قضية الإبادة على أجندة المحافل الدولية، وفي إبقاء هذه القضية حية، رغم كل محاولات تركيا الاستمرار في إنكارها والالتفاف عليها.
من إبادة الأرمن إلى إبادة الكرد
على خطى أجداده العثمانيين، يواصل أردوغان ارتكاب المجازر والاحتلال، ولكن هذه المرة ضد الكرد، ففي المناطق الكردستانية داخل تركيا تجاوزت حرب أردوغان ضد الكرد كل الحدود، فإلى جانب حملات القتل والتهجير باتت تركيا تمارس عمليات محو الهوية الكردية من آثار وتاريخ وثقافة، وهكذا قام بهدم المدينة الفديمة في دياربكر– آمد بحجة التطوير العقاري، وردم آثار منطقة هسنكيف التاريخية بالمياه بحجة توليد الكهرباء، حيث تشكل هسنكيف درة الحضارة الكردستانية منذ أكثر من عشرة قرون، وفي سوريا وبحجة الأمن القومي التركي شن أردوغان سلسلة حروب ضد الكرد، فمن احتلال عفرين إلى احتلال تل أبيض و رأس العين – سري كانيه، تمارس تركيا سياسة إبادة اجتماعية وثقافية ضد الكرد، من خلال تغيير البنية الديمغرافية للمناطق الكردية وجلب المستوطنين المرتبطين بها للاستيطان في هذه المناطق، ولعل الأخطر هنا، هو إطلاقها يد الجماعات الإرهابية التي تمارس القتل والاغتيال والاستيلاء على منازل الكرد والتهجير والتغيير الديمغرافي وتشكيل بنى مجتمعية جديدة على حساب أصحاب الأرض وهويتهم ووجودهم، فكل ما سبق جرى ويجري على قدم وساق في عفرين ورأس العين …، على شكل جريمة إبادة عرقية لمكون متجذر في هذه المناطق، ويشكل أس هويتها الثقافية والاجتماعية وسط صمت بل وتؤاطئ دولي إزاء مواصلة أردوغان لجرائمه ضد الكرد.