خورشيد دلي
يحشد أردوغان قواته على الحدود مع سوريا وتحديدا مع محافظتي إدلب وحلب، يرسل المزيد من الدبابات والمدرعات ومنصات الصواريخ، يدعم المجموعات المسلحة هناك بأسلحة جديدة ومتطورة، يعطي مهلة حتى نهاية الشهر الجاري لسحب الجيش السوري قواته من المناطق التي سيطر عليها مؤخرا، كل شيء يوحي وكأن حرب باتت واقعة لا محالة.
هذه الأجواء الحربية، تأتي مع عاملين مهمين. الأول: استعادت الجيش السوري السيطرة على معظم المناطق الحيوية في إدلب ولاسيما الطرق الدولية. والثاني: وصول الحوار بين تركيا وروسيا بشأن إدلب إلى نهايته تقريبا وسط اتهامات متبادلة بين الطرفين، مقابل بروز فرصة مهمة لإعادة الدفء إلى العلاقات التركية – الأمريكية من بوابة التطورات الجارية في إدلب. ومع هذه المعادلة الجديدة دخل أردوغان في علاقة صعبة مع موسكو، مقابل فرصة لتحسينها مع واشنطن ولاسيما بعد تبرئة الكونغرس لترامب من التهم التي كانت موجهة له، حيث ثمة من يرى أن أردوغان وضع سياسة بلاده بين هاتين القوتين الكبيرتين ورهنها لهما، فيما يرى آخرون أن أردوغان نجح في استثمار علاقته بالطرفين لزيادة نفوذه ودوره، ولاسيما أن عملياته العسكرية العدوانية الثلاثة (درع الفرات – غصن الزيتون – نبع السلام) جاءت في هذا السياق.
على وقع التطورات الجارية في إدلب، بدأ أردوغان يحس بصعوبة العلاقة مع بوتين، وربما يحس بأن الأخير نجح في إدراجه إلى استراتيجية التدريجية في السيطرة على كل أوراق الأزمة السورية، وأن الوقت حان لإخراج تركيا من إدلب ولاحقا باقي المناطق التي احتلتها تركيا، وهو ما يجعل أردوغان يحس بالمرارة دون القدرة على اتخاذ قرار المواجهة مع الروسي في إدلب، إذ أن خياراته باتت محصورة، إما بالذهاب إلى تفاهمات جديدة تطرحها موسكو على شكل العودة إلى اتفاقية أضنة ولو بصيغة جديدة أو الذهاب إلى مواجهة عسكرية صعبة معها، حيث المحور الروسي الإيراني السوري الذي يتمسك بالأرض تدريجيا على حساب النفوذ التركي. وهو ما يوجه الأنظار إلى العلاقة التركية – الأمريكية لطالما أن قيام تركيا بأي عملية عسكرية في إدلب لإقامة منطقة آمنة أو استعادت المناطق التي خسرتها بحاجة إلى دعم أمريكي مباشر فضلا عن دعم الحلف الأطلسي، وهو ما لا يمكن توقعه في ظل ابتعاد الولايات المتحدة عن سياسة التدخل المباشر في مناطق غربي الفرات، وذهاب أردوغان بعيدا في علاقاته بموسكو، وشراء صفقات أسلحة ضخمة منها وعلى رأسها المنظومة الصاروخية (إس – 400).
في التطلع إلى حصول تطورات محتملة على مسار العلاقة التركية – الأمريكية، تتجه الأنظار إلى الزيارات المكوكية التي يقوم بها المبعوث الأمريكي جيمس جيفري إلى تركيا، حيث يسعى الأخير جاهدا إلى إيجاد خريطة طريق، يمكن له من خلالها السير مع تركيا وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) جنبا إلى جنب في سياسته حيال الأزمة السورية، ورغم صعوبة إن لم نقل استحالة ذلك، بسبب التناقض الكبير بين مواقف ومصالح الطرفين، إلا أن جيفري يبدي التصميم على ذلك، انطلاقا من محاولته صوغ استراتيجية أمريكية قديمة – جديدة حيال الأزمة السورية، وهي استراتيجية، تقوم على أنه لا يمكن للولايات المتحدة موازنة النفوذ الروسي وإلحاق الهزيمة بالنفوذ الإيراني في سوريا ما لم يتم استمالة تركيا إلى جانب السياسة الأمريكية في سوريا، وزيادة الضغوط على النظام السوري وحليفيه الروسي والإيراني، إذ أن تصريحات جيفري بشأن نعي مسار سوتشي وآستانا، باتت تتلاقى مع التصريحات التركية بهذا الخصوص، وهو ما يعمل عليه جيفري في المرحلة المقبلة.
معضلة جيفري الذي كان سفيرا سابقا لبلاده في أنقرة، ويملك علاقات واسعة مع المسؤولين الأتراك، بما في ذلك أردوغان، أنه يواجه موقفا رافضا من تركيا حيال قسد عموما والكرد خصوصا، وكذلك رفض أي اعتراف بالحالة الكيانية الموجودة في شرقي الفرات، على اعتبار أن تركيا ترى أن مشروع الإدارة الذاتية هناك هو في النهاية امتداد لمشروع حزب العمال الكردستاني، وعليه يحرص جيفري على تفهم الموقف التركي باتخاذ خطوات، هدفها صوغ مرجعية سياسية جديدة شرقي الفرات، لم تتضح ملامحها بعد.
مع التأكيد مجددا على صعوبة إدارة المصالح بين الحليفين الكردي والتركي، فإن جيفري يعتقد أن إمكانية إعادة التنسيق إلى مسار العلاقة بين أنقرة وواشنطن باتت سالكة مع التطورات الجارية في إدلب وانسداد المفاوضات التركية – الروسية بشأنها، ولعله ينطلق في هذه القناعة من عوامل عديدة، أهمها أن اتفاق سوتشي بشأن إدلب وصل إلى طريق مسدود، وأن الموقف الأمريكي المساند لتركيا في هذا الملف، يشكل رافعة للموقف التركي ومدخلا للتنسيق بين الجانبين في المرحلة المقبلة، وهو ما يشكل عنصر قوة في حسابات أردوغان بشأن إدلب وكباشه مع بوتين بشأن كيفية مواجهة تقدم النظام ورفض الأخير للتهديدات التركية، فيما يرى أردوغان أن الوضع في إدلب يمكن أن يشكل مدخلا لإعادة الدفء إلى العلاقات التركية – الأمريكية التي تراجعت كثيرا في السنوات الأخيرة على وقع التقارب التركي – الروسي، خاصة أن تركيا في النهاية هي دولة عضو في الحلف الأطلسي وترى نفسها ملتزمة بسياساته.
في الواقع، ما يجري في إدلب وضع السياسة التركية في امتحان مصيري، فهي من جهة ترى أنها باتت أمام مواجهة صعبة مع روسيا، وأن هذه المواجهة ستكون مكلفة وربما مدمرة لها، ومن جهة ثانية أمام سياسة أمريكية غامضة، سياسة تتراوح بين الدعم السياسي في إدلب دون العسكري، وهو ما يعزز الاعتقاد لدى أردوغان بأن واشنطن ربما تريد من وراء الدعم السياسي فقط توريطه في نزاع عسكري مع موسكو في إدلب، وفي الحالتين تبدو تركيا أمام استحقاق سيكون له أثمان كبيرة على سياسة أردوغان الداخلية والخارجية.