خورشيد دلي
مع تقدم قوات الحكومة السورية بدعم روسي في محافظة إدلب، تتجه الأنظار إلى معركة إدلب ومآلاتها، فالتطورات الميدانية تطرح أسئلة كثيرة عن مستقبل التفاهمات الروسية – التركية، وهل يمكن أن نشهد تفاهمات جديدة بين الطرفين؟ وهل ما جرى ويجري يأتي في إطار التخلي عن مسار آستانا وسوتشي؟ وما هو مصير نقاط المراقبة التركية؟ وكذلك ماذا عن مصير الجماعات المسلحة؟ وأين تعهدات أردوغان بحماية هذه الجماعات؟ وكيف سيؤثر كل ما سبق على العلاقات الروسية – التركية؟ وما تأثير التطورات الجارية في إدلب على باقي مناطق شمال سوريا الواقعة تحت سيطرة "الاحتلال التركي"؟ وهل يمكن أن تكون هناك صفقة كبرى بين القيصر بوتين والسلطان أردوغان؟. هذه الأسئلة وغيرها تؤكد أن إدلب باتت إمتحانا لمجمل التفاهمات السابقة التي جرت بين روسيا وتركيا وإيران، وفي الوقت نفسه مسارا للعلاقات التركية – الروسية في المرحلة المقبلة.
مع استعادة الجيش السوري السيطرة على مدينة معرة النعمان الاستراتيجية في إدلب والتي كانت تشكل خط الدفاع الأول للجماعات المسلحة، خرج أردوغان ليقول (إن بلاده أخبرت الجانب الروسي أن صبرها ينفد، وأن تركيا ستقوم بما يتوجب عليها القيام به إذا لم يتوقف القصف، وأن روسيا لم تلتزم بتفاهمات سوتشي وأستانا).
في الواقع، تصريحات أردوغان هذه، تعبر عن أزمة السياسة التركية في سوريا ونفاقها، فتركيا التي تعهدت مرارا بحماية الجماعات المسلحة في إدلب، بدت متفرجة إن لم نقل عاجزة عن فعل أي شي أمام تقدم الجيش السوري، وهو ما دفع ببعض الجماعات المسلحة إلى اتهام تركيا بالتخلي عنهم وخيانتهم، إذ أن الاعتقاد السائد لدى هؤلاء، هو أن أردوغان باعهم في صفقة جديدة غير معروفة تفاصيلها إلى الآن، وحقيقة، فإن الموقف التركي يحمل في طياته ملامح صفقة روسية – تركية، جرى الحديث عنها خلال الاجتماع الأخير في أستانا، وهو تفاهم يقوم على ترتيب استعادة الجيش السوري السيطرة على الطرق الدولية في شمال غرب سوريا، أي طريق (M5) الذي يربط حلب بالعاصمة دمشق، وطريق (M4) الذي يربط حلب باللاذقية، والطريق الدولي الذي يربط بين حلب – حماة، أي جميع الطرق الدولية للأعمال التجارية الحيوية، وهو ما يعني ضرورة السيطرة على سراقب بعد معرة النعمان، كي يستطيع الجانبان الروسي والسوري من السيطرة الكاملة على هذه الطرق، ومثل هذا الهدف قد يواجه صعوبات كبيرة، بسبب وجود نقاط مراقبة تركية جنوب سراقب من جهة، ومن جهة ثانية لأن طريق الوصول إلى سراقب عبر جبل الزاوية قد يكون مكلفا جدا، ولعل هذا ما يفسر تركيز الجيش السوري على محور ريف حلب الغربي والجنوبي، أي السعي إلى الربط بين ريفي حلب وإدلب كمعركة واحدة بغية الوصول إلى سراقب.
والمرحلة الثانية من خطة التفاهم الروسي – التركي هذه، تتضمن عودة مؤسسات الحكومة السورية إلى مدينة إدلب، وترتيب وضع المدينة من جديد، وهو ما يعني التخلص من الجماعات المسلحة ونفوذها تدريجيا عبر تسويات باتت معروفة ومن يرفضها يكون مصيره القتل أو الهرب.
ماذا يعني ما سبق؟
قراءة دقيقة لمضمون هذه النقاط، تضعنا أمام جملة من القضايا الجوهرية، لعل أبرزها:
1- أن مسار تفاهمات أستانا ومن ثم سوتشي، كان مؤقتا، وتعبيرا عن ترتيب أولويات الطرفين في ضوء مصالح كل طرف مرحليا وليس تعبيرا عن تحقيق هدنة تحقق تسوية سياسية في طريق الحل السياسي للأزمة السورية.
2- أن جوهر التفاهمات الروسية – التركية، كان قائما على مبدأ الصفقات، وهي صفقات تحقق بعض الأهداف السياسية لكل طرف، سواء أكانت هذه الأهداف مرتبطة بالأزمة السورية أو بملفات أخرى، ولاسيما الموقف من العلاقة مع الولايات المتحدة، ووجودها العسكري في شرقي الفرات.
3- انفضاح حقيقة كذب أردوغان في رفع الشعارات الإخلاقية والإنسانية والدينية، وكذلك استخدامه للجماعات المسلحة السورية وغير السورية كمرتزقة في حروبه لتحقيق أجندته، وفي الوقت نفسه استعداده لبيع هذه الجماعات في أي صفقة تحقق له هذه الأهداف والأجندة.
4- النقطة السابقة تطرح السؤال عن مصير الجماعات المسلحة في إدلب، وإلى أين ستكون وجهتهم المقبلة؟ وكيف سيتم التخلص منها؟. واضح من التقارير الكثيرة أن مجموعات من هؤلاء سيتم استخدامها في المحرقة الليبية، فيما قسما كبيرا من هؤلاء غير معروف مصيره أو وجهته حتى الآن.
5- في مبدأ الصفقات، ينبغي عدم استبعاد وجود صفقة روسية – تركية جديدة، مفادها إدلب مقابل مناطق جديدة في شرقي الفرات، ولعل عدم تحرك المجموعات المسلحة في مناطق (درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام) لمساعدة المسلحين في إدلب يشير إلى وجود قرار بهذا الخصوص من الحاكم التركي، كما أن تعزيز الجماعات المسلحة لنفوذها في تل أبيض مؤخرا، يوحي بمثل هذه الصفقة، خاصة في ظل تركيز هذه الجماعات والصحافة التركية علىى كوباني – عين العرب.
6- أن وضع إدلب الميداني بات يشكل مسارا للحوار السوري – التركي المعلن والذي بدأ بلقاء مملوك – فيدان في موسكو، وهو ما يعني أن طريق عودة العلاقات الرسمية بين الجانبين مرتبط بتخلي أردوغان عن إدلب.
7- أن مرحلة ما بعد إدلب هي مرحلة استعادة مناطق أخرى تحتلها تركيا، وتحديدا المنطقة الممتدة من جرابلس إلى عفرين مرورا بالباب وإعزاز، ولعل العنوان الأساسي لهذه المرحلة سيكون تفعيل العمل باتفاقية أضنة الموقعة بين دمشق وأنقرة عام 1998، مع فارق أن روسيا هي راعي إعادة تفعيل هذه الاتفاقية ولو بصيغة جديدة تريدها تركيا لصالحها.
بين القيصر والسلطان دروب كثيرة في سوريا، دروب بدأت مع إسقاط تركيا طائرة حربية روسية على الحدود التركية – السورية، حادثة بدلاً من أن تشكل مدخلا لحرب بين الجانبين رسمت عهدا جديدا في علاقة كانت تقوم على بحر من الصراعات التاريخية، لقد نجح القيصر في دفع السلطان صوب أجندته السورية أملا في كتابة قصة نجاح روسية كاملة في سوريا، وسلخ تركيا عن حليفتها التاريخية الغرب وحلفه الأطلسي، فيما كان السلطان يقترب من القيصر ليرسل رسائل إلى الغرب بأهميته أولا، وليدعم أوهام إعادة امبراطورية أجداده البائدة ثانيا، وفي سبيل ذلك، تورط الرجل في صناعة الموت وكل مستنقعات الإرهاب وقتل الكرد الذين ألحقوا أكبر هزيمة بـ"داعش"، ليجد السلطان نفسه غارقا في بحر من حروب ولا يجد أمامه سوى الإطفائي بوتين حيث يعرف الأخير كيف يجعل من حرائق أردوغان نجاحات جديدة في مجده السياسي الصاعد.
بعد إدلب، هل انتهت اللعبة أم أن بوتين يعرف كيف يدفع أردوغان إلى لعب أداور جديدة في معركة الصراع على شرقي الفرات؟.