لفك ضائقتهم المادية.. سكان يعرضون كلاهم للبيع في مناطق سيطرة الحكومة السورية

دمشق – أحمد كنعان – نورث برس

 

لم يكن "سيد الصمت" – وهو لقب طلب شاب من مدينة اللاذقية أن يعرف به – ليُقدم على التفكير في بيع كليته علناً عبر مواقع التواصل الاجتماعي لولا أن زوجته خضعت مؤخراً لعملية جراحية في إحدى مشافي اللاذقية على الساحل السوري، خصوصاً أنه يعيل طفلين ولا يملك مورداً سوى راتب لا يتعدى /50/ ألف ليرة سورية، أي ما يعادل (نحو 20 دولاراً أمريكياً).   

 

هذا ما كشفه الشاب البالغ من العمر /26/ عاماً، لـ"نورث برس" بعد الاتصال به عبر رقم الهاتف الذي أرفقه مع إعلانه على صفحة "دمشق الآن ووجع الشعب" في موقع فيسبوك والذي قال فيه: "أنا عسكري احتياط ووضعي زفت ولم يعد لدي حل سوى أن أبيع كليتي".

 

 

لكن "سيد الصمت"، ليس الوحيد في هذه المحنة فقد ارتفعت نسبة إعلانات مماثلة  لمعيلي أسر سورية يعبرون فيها عن استعدادهم لبيع إحدى الكليتين، لقد باتت مواقع التواصل الاجتماعي تعج بهذه العروض، في مقابل وجود عروض مماثلة في ملصقات على جدران عدد من المستشفيات الكبيرة في العاصمة دمشق، وهو ما يدعم احتمالية وصول المشكلة إلى مستوى كونها ظاهرة في مناطق سيطرة الحكومة السورية، خاصة مع تزايد المعاناة المعيشية في البلاد على خلفية الأزمة الاقتصادية التي تراكمت بعد سنوات من الحرب والأزمة السياسية لا تبدو قريبة من الحل.

 

وحتى بعد مرور سنوات على بدء الحرب السورية، لم يكن من الشائع أن تصادف هذا الكم من الحالات التي يعلن فيها سوريون جهاراً عن استعدادهم لبيع أحد أعضائهم مقابل مبالغ مالية تعيلهم على فك ضائقتهم المالية.

 

و"سيد الصمت" الذي يقيم في منزل بحي الرمل الشمالي في اللاذقية يدفع أجرته /25/ ألف ليرة، "هو نصف الراتب الذي لا يكفي ما تبقى منه ثمن للسجائر، فماذا سأفعل لأصرف على أربعة أشخاص".

 

ويضيف الشاب بلهجة يائسة "أنا في موقع استطيع فيه أن أسرق وأجبر الآخرين على دفع إتاوات ولو فعلت ذلك لكان لدي الآن بيت وسيارة ولكن أخلاقي تمنعني من السرقة".

 

وعما إذا كان قد استجاب له أحد وطلب شراء الكلية يوضح الشاب أن أكثر من شخص اتصل به ولكن عدم توافق الأنسجة أحال دون إتمام الاتفاق ومناقشة السعر، "ما زلت انتظر من يحمل نفس زمرة دمي وتتوافق أنسجته مع أنسجتي".

 

وقال إنه يطلب /30/ مليون ليرة سورية ثمناً لكليته، لكنه طالب قبل انتهاء المكالمة بعدم ذكر اسمه، " أعرف أن ما أقوم به غير قانوني ولكني مضطر ولا خيار آخر لدي".

 

واهبون بمبالغ كبيرة

 

في حالة مشابهة تتبعنا صفحة "سوق طرطوس الأول للمستعمل" على فيسبوك  نشر إعلانٍ لسيدة باسم "هالة علي" تقول فيه: "أرغب ببيع كليتي بسعر /50/ مليون من له مصلحة فيتواصل معي وأرجو عدم السخرية الكلام جدي".

 

 

لكنها قامت بتعديل منشورها لاحقاً وقالت "تم البيع"، وشكرت من ساعدها عبر التفاعل والتعليقات، "لم أجد عمل بأجر يكفي لدفع أجرة البيت ويكفي لأصرف على نفسي وأخواتي الصغار واشتري دوا لأمي".

 

ولدى المرور قرب مشفى الكلية الجراحي في ركن الدين أو حتى مشفى المواساة أو الأسد الجامعي في المزة وهي مشافي حكومية يسمح فيها وحدها علميات زرع الكلية، تلاحظ أن الجدران مليئة بإعلانات يطلب أصحابها متبرعين بكلية، وموضحين فيها زمرة الدم ومذيلة بأرقام هواتف للتواصل.

 

وتقول رقية إبراهيم (60) عاماً ومصابة بقصور كلوي "أنا أقوم بعملية غسيل الكلية منذ خمس سنوات وأعيش بكلية واحدة، وقد تقدم للتبرع أكثر من شخص، ولكن لم يكن هناك توافق في الأنسجة".

 

وتكشف إبراهيم أنه تصادفت مع إحدى الحالات التي حدثت فيها توافق بين انسجتها وأنسجة أشخاص أرادوا بيع كليتهم، وكان رأي الطبيب بعد الاطلاع على نتائج الفحوص الطبية أن نسبة نجاح العملية جيدة، "لكن عندما بات الأمر جدياً قال لي المتبرع أن أوضاعه المعيشية سيئة جداً وهو قرر بيع كليته ليستطيع الاستمرار، ولا يوجد لديه أي أمل بتحسين أوضاعه غير ذلك، وطلب مني مبلغاً كبيراً لم أستطع تأمينه للأسف".

 

وحول عدد عمليات زراعة الكلية التي تتم يومياً بدمشق قال أحمد سليمان رئيس قسم زراعة الكلية في مشفى الكلية الجراحي لـ "نورث برس": "نحن نجري عمليتيْ زراعة كلية أسبوعياً ولا أعرف عدد العمليات التي تجري في مشفى المواساة ومشفى الأسد الجامعي".

 

 

لكنه أكد أن العملية لا تتم إلا بعد إجراء الفحوص اللازمة كاملة والتأكد من عدم حصول أي مضاعفات للمتبرع.

 

الانهيار الاقتصادي

 

المحامي جواد مشهديه أرجع لجوء الناس إلى بيع كليتهم إلى انحدار الأوضاع الاقتصادية لمستويات غير مسبوقة بفعل سوء إدارة الملف الاقتصادي من قبل الحكومات المتعاقبة وبفعل العقوبات الدولية وآخرها قانون "قيصر" ما أوقع /85/ % من الشعب السوري تحت خط الفقر.

 

وأضاف "وهو ما دفع الكثيرين لمحاولة تأمين لقمة عيشهم بشتى الوسائل، وإنْ كانت غير مشروعة ما أدى لانتشار الفساد والجريمة والتسول وانتشار الدعارة، وأخيراً وجد البعض حلاً وإنْ كان صادماً وهو أن يعرض عضو من أعضائه للبيع على مواقع التواصل لقاء مبالغ تسمح بإطعام أسرته".

 

ووفقاً لأحكام القانون رقم /30/ لعام 2003 فهو أمر مخالف، حيث حصر عمليات نقل الأعضاء بالمستشفيات الحكومية ووضع آلية واضحة وشروط يجب توفرها بالواهب الحي أو الميت وشروط بالمستفيد ومنع التبرع إذا كان لقاء بدل مادي أو بغاية الربح وفرض عقوبة الحبس من ستة أشهر لسنتين، والغرامة من خمسة آلاف إلى /10/ آلاف على مخالفة أحكام القانون والأشغال الشاقة المؤقتة، والغرامة من /50/ ألف إلى /100/ ألف على كل من يقوم بالإتجار بالأعضاء.

 

وأوضح مشهديه أن الأوضاع المادية الصعبة التي وصل إليها الكثيرون وانغلاق أبواب الرزق أمامهم "دفعتهم للتغاضي عن العقوبات القانونية وهو مؤشر خطير لمستوى الانحدار الذي وصلنا له وهذا سيخلق سوق سوداء لهذه التجارة إن لم تكن موجودة أصلاً".

 

حلول مؤجلة

 

ورأى المحامي أن الحل مرتبط بإيجاد مخارج للأزمة الاقتصادية تمكّن المواطن من ايجاد عمل يؤمّن عبره دخلاً معقولاً، "وهذه مسؤولية الحكومة".

 

وعبّر عن تشاؤمه بالقول "لكن للأسف لا يوجد ما يشير إلى وجود حلول قريبة خصوصاً إذا استمرت إدارة الأمور بهذه العقلية والتمسك بأشخاص ثبت فشلهم".

 

وأشار مشهديه إلى أننا ما زلنا في مرحلة الركود الاقتصادي والانهيار يحدث بشكل يومي، وأن المرحلة القادمة هي مرحلة الكساد "ما ينذر بأيام مظلمة لن يكون فيها المواطن مخالفاً للقانون بالاعتداء على جسده فقط، بل قد يتعدى ذلك إلى الاعتداء على الآخرين لتأمين أساسيات الحياة".