الأسواق المتنقلة في كوباني.. تراث ينتعش أكثر وسط التدهور الاقتصادي
كوباني – هيثم مسلم – نورث برس
يقف عثمان ويسو، وهو تاجر ماشية، بين أغنامه وسط سوق متنقل "بازار" في قرية خانيك جنوب مدينة كوباني، شمالي سوريا، ويرفع إحدى الخواريف تارة ليثبت أنها بصحة جيدة، ثم يتحسس تارة أخرى خروفاً مكتنزاً محاولاً لفت انتباه تجار وزبائن اجتمعوا حوله.
يقول، والعرق يتصبب من جبينه، إنه ورث هذا العمل من أبيه ليقضي أيام عمله في التجول بين الأسواق المتنقلة وتجارة الأغنام، "اليوم في سوق الجمعة بقرية خانيك، وبعد غدٍ في سوق الأحد في قرية ولاقية، وهكذا أتنقل مع تنقل السوق بين القرى والمناطق".
وتشهد أربعة أسواق في منطقة كوباني، بالإضافة إلى سوق في ناحية صرين وآخر في بلدة هيشة بالريف الجنوبي لمدينة تل أبيض حركة نشطة في ظل الغلاء غير المسبوق مؤخراً نتيجة التدهور الاقتصادي وتدهور قيمة الليرة السورية.
تراث وحاجة
ورغم ازدياد المحلات والأسواق التي توفر الاحتياجات والمواد الغذائية في القرى والتجمعات السكنية خلال السنوات العشر الأخيرة إلا أن ثقافة الأسواق المتنقلة "البازارات" التي تعرف محلياً بحسب أيام الأسبوع كسوق الأحد أو السبت لا تزال تحافظ على نفسها في كوباني وريفها، حيث يلجأ إليها الآلاف من أبناء القرى للتبضع أو بيع منتجاتهم ومواشيهم.
وقال خليل أحمي، وهو رجل ستيني، يجلس إلى جانب سيارته ويبيع الأجبان، إن الناس يأتون إلى السوق كل جمعة لتأمين احتياجاتهم، فالكثير منهم لا يشترون إلا من هذه الأسواق.
وأضاف: "كل شيء متوفر هنا وبسعر أقل مما في المحلات والأسواق داخل المدن، عملنا يبدأ مع الفجر وينتهي غالباً في الظهيرة عندما نكون قد بعنا كل بضاعتنا".
وتعود نشأة هذه الأسواق المتنقلة إلى عقود ماضية، عندما بدأ الناس يتجمعون في ساحات القرى أو بعض الأماكن المحددة لبيع وشراء الماشية، ليحدد موعد التجمع لاحقاً بأحد أيام الأسبوع حتى يكون الجميع على علم بالحدث، ومع مرور الزمن توسعت تلك التجمعات وأصبحت أسواقاً تضم العديد من البضائع والمنتجات وانتشرت في المنطقة، بحسب ما يسرده أبو جمال.
زبائن يبيعون وباعة يشترون
وفي هذه الأسواق تختفي الحدود بين البائع والشاري، ورغم أن عملية تبادل البضائع والمنتجات قديماً كشراء بضاعة بأخرى لم تعد شائعة، إلا أن كثيراً من مرتادي هذه الأسواق يبيعون فيها منتجاً ليشتروا احتياجاتهم الأخرى من المكان نفسه.
يقول مصطفى علو (٦٩ عاماً)، إنه اعتاد على التبضع من هذه الأسواق، فهنا تتوفر كل احتياجاته، ويشتري بأسعار أرخص من أسواق المدينة وقراها، بالإضافة إلى أنه يبيع مواشيه ومحصوله من الفستق هنا أيضاً.
"فهنا أشتري وأبيع، كل الباعة والزبائن الذين يأتون إلى السوق هم من محدودي ومتوسطي الدخل".
تخفيض الأسعار
ويستطيع باعة الأسواق المتنقلة في كوباني تخفيض نسبة من الأسعار وسط الغلاء غير المسبوق مؤخراً، من خلال الاعتماد على "ربح قليل وبيع كثير" بحسب تعبيرهم، بالإضافة إلى أنهم يحصلون مجاناً على مساحة لبيع منتجاتهم ولا يتحملون إلا مصاريف إحضار البضائع إلى السوق.
ويبلغ عدد الباعة في هذا السوق ما يقارب /300/ بائعاً، يأتون من مدينتي كوباني ومنبج وريفيهما، بالإضافة إلى باعة من مناطق الرقة، فهنا يجتمع أشخاص من ثقافات محلية متنوعة، يقضون نهارهم بروح المنافسة حسب قواعد السوق، وغالباً ما تراهم يساعدون بعضهم البعض في تأمين البضاعة.
لكن لا قوانين إدارية حاكمة هنا ولا لجان ودوريات لحماية المستهلك أو لفحص صلاحية المنتج، فكل ذلك محلول وفق أعراف السوق كما أنهم وحدهم يسعون إلى البيع بأرخص الأسعار بروح تنافسية تعتمد على أعراف أخلاقية في التعامل وتعايش مشترك.
مساحة للتعايش والتعارف
ويرحب خليل الموحي، بائعٌ من المكون العربي من ريف الرقة، بزبائنه ببعض العبارات الكردية التي تحاكي أجواء السوق، ويستطيع أن يجيبهم عن ثمن بضاعته بالأرقام الكردية.
يقول، لـ"نورث برس"، إنه يشعر بسعادة عندما يتحدث بعض الكلمات الكردية مع زبائن من المكون الكردي، معتبراً أن تعلمه للغة الكردية يمكنه أكثر من فهم الزبائن وثقافة المجتمع والسوق.
ويضيف بصوت عالٍ: "خارزي (يا ابن أختي)، نحن نبيع ونتعلم، نضرب عصفورين بحجر".
إلى جانب ذلك يوضح جاره الكردي أن هذه الأسواق مكنته من التحدث بلهجات عربية محلية بطلاقة، وتعرف أكثر على عادات كل منطقة واحتياجات حياتهم ومناسباتهم، وكذلك منتجاتهم المحلية وأعمالهم اليدوية.