شهادات ناجين من سجون "الهيئة" بإدلب.. "شبْح وضرب ونعش حديدي"

نورث برس – إدلب

“لم يبقَ سجن للنصرة إلا ونزلت فيه، غير أن سجن “العُقاب” كان الأقسى على الإطلاق فقد قاسيت فيه ألوان العذاب ونجوت من الموت عدة مرات بأعجوبة” هذا ما قاله صهيب العمر، (اسم مستعار)، (٣٦ عاماً) المعتقل السابق لدى هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، على خلفية مواقفه الرافضة “لسياستها في المنطقة وتحذير الأهالي من تزويج بناتهم لعناصرها”.

و”العُقاب” تسمية تطلق على سجن يضم /14/ معتقلاً تابعاً لـ “جبهة النصرة”، وتتوزع في جبل الزاوية بريف إدلب الجنوبي الغربي على طريق البارة كنصفرة وعلى طريق البارة كفرنبل وفي احسم ودير سنبل.

وكانت بعض تلك المعتقلات في الأصل مداجن تركها أصحابها بعد اندلاع الحرب في المنطقة، ومنها ثلاث مغارات جهزت على عجل خلال فترة قصيرة، وهي أشبه بفروع للتحقيق، وسميت السجون بـ “العُقاب” نسبة إلى “مهاجر سعودي” قضى في إحدى المعارك مع قوات الأسد في وقت سابق.

“تكرم عينك”

واعتقل العمر ثلاث مرات متتالية بين العامين 2015 و2016ليوضع في كل مرة في سجن مختلف، المرة الأولى كانت بمدجنة في جبل الزاوية (بين كنصفرة والبارة) بقي فيها مدة /٢٧/ يوماً، وقاسى فيها أنواع العذاب.

“لا أنسى. كنت مصاباً حينها في ركبتي نتيجة قصف وكنت قد خضعت لعملية جراحية. استوقفوني على الحاجز واقتادوني إلى السجن ووضعوني في المنفردة. كان البرد قارساً ولا تتوفر أغطية”.

ويتابع سرد قصته: “كنت بحاجة لأدوية التهاب ومسكنات، صرخت بأعلى صوتي كي يحضروا لي الدواء، فكان جوابهم، تكرم عينك”.

لكن وبدلاً عن إحضار الدواء قام ثلاثة رجال بأخذه إلى غرفة التحقيق وبدأوا بضربه، “داسوا على جرحي بأقدامهم، غبت عن وعيي عدة مرات لشدة الألم، وفي كل مرة كانوا يقومون بسكب الماء البارد علي حتى أصحو فيستمرون في ضربي مجدداً”.

في المرة الثانية التي اعتقل فيها العمر، اقتادوه إلى سجن العُقاب الواقع بين بلدتي بليون وكنصفرة وهو عبارة عن مغارة مظلمة. “شبْحٌ وجلد وحرق وضرب وبساط الريح في الصباح والمساء”. لكن “يبقى النعش الحديدي (التابوت) وسيلة التعذيب الأخطر والأشد في العقاب”.

والنعش الحديدي مؤلف من صفائح معدنية كالنعش، مزود بمقود أشبه بمقود السفينة لتقريب الصفائح من بعضها البعض. يوضع السجين بداخله وتشد الصفائح إلى بعضها على صدره بالتدريج. ويستخدم كوسيلة لتعذيب المعتقلين أثناء التحقيق لإجبارهم على الاعتراف بما قاموا به و”بما لم يقوموا به”.

يقول صهيب العمر الذي ناله نصيب كبير من التعذيب داخل “التابوت” الذي قضى فيه أياماً، “كان شعوراً لا يوصف، وكأنني أعيش عذاب القبر كما كان يوصف لي، غير أن الفرق هو أنني عشته وأنا على قيد الحياة”.

فظاعة وتجويع

وعلى الرغم من أن سجن العُقاب يصنف كأخطر السجون في إدلب إلا أن سجن حارم المركزي، إدلب المركزي، مرعيان، جبالا، وسجن الأمنيات النسائي بإدلب، إضافة لمراكز توقيف محلية” نظارات” بالريف لا تقل “فظاعة عنه” وفقاً لروايات شهود نجوا منها.

وبحسب هذه الشهادات وتقاطع المعلومات التي حصلت عليها “نورث برس” فإن معظم المطلوبين للاعتقال في سجن العُقاب هم ممن يناهضون أيديولوجية “جبهة النصرة”، ولهم تأثير في مجتمعاتهم المحلية، أو من الحراك المدني الذي نشط بداية الاحتجاجات في سوريا، وأحياناً يتم تلفيق التهم للأثرياء في المنطقة للحصول على قسم من أموالهم مقابل إطلاق سراحهم.

وتجري عمليات الاعتقال بداية بوضع السجين في منفردة لا تتجاوز مساحتها متراً مربعاً، لتبدأ بعدها مرحلة التحقيق والتي تبدأ عادة في منتصف الليل وتستمر حتى طلوع الفجر، وخلال هذه الفترة يبقى المعتقل معصوب العينين.

ومن أشهر المحققين في سجون النصرة اثنان ذاع صيتهما في المنطقة ويعرفان بـ “أبو حذيفة حلفاوي وأبو خديجة صوران”، ويبدأ التحقيق بالشبح والضرب العشوائي على جميع أنحاء الجسم باستخدام أنابيب التمديدات الصحية، عدا اللكمات على الوجه والرأس والمناطق الحساسة وفق ما كشف ناجون.

ويستمر التحقيق مدة ثلاثة أشهر ثم ينقل السجين إلى المعتقلات الجماعية، ويتم عرض المتهمين على القضاة الشرعيين وفي حال قضي بإخلاء سبيل المعتقل تبدأ حكايته مع سجن آخر في دار القضاء الذي يختلف عن “العقاب” فقط بـ “ترك عيون المعتقلين مفتوحة”، إلا أن السجين لن يخرج من السجن دون “دفع مبلغ مالي، فلكل تهمة مبلغ يبدأ من /١٠٠/ دولار وحتى /١٠٠/ ألف دولار أمريكي”.

ويتم تقديم الطعام في هذه السجون بطريقة مختلفة، فيتم استخدام التجويع كأداة ضغط على المعتقلين في أكثر الأحيان ويترافق تقديم الطعام مع الإهانات والضرب والصراخ”.

يقول خالد مصطفى (اسم مستعار)، (29 عاماً): “كانوا يضعون لنا الطعام في أوان معدنية ويضعون لكل عشرين شخص وعاءً واحداً. كان علينا تناول الطعام بأيدينا في مدة أقل من دقيقة، وقبل مضي الدقيقة كانوا يبدؤون بسحب الأوعية من أمامنا”.

تعذيب بسبب منشور في “فيسبوك”

عندما كتب خالد مصطفى على حسابه في موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” وتحدث عن “تسليم المنطقة للنظام وعمالة النصرة”، لم يتصور أن تكون ردة فعلهم بـ “تلك السرعة والفظاعة”.

“لقد داهموا منزلي وتم نقلي معصوب العينين ضمن رتل مكون من أكثر من أربع سيارات مزودة برشاشات إلى سجن العقاب”.

وتعرض المصطفى للشبح مرات عديدة، وعن وسيلة التعذيب هذه يقول: “كانوا يربطون يدي من الخلف ويعلقونني منهما للأعلى. إنها أبشع طرق التعذيب على الإطلاق، كنت أسمع صوت عظامي وهي تتكسر. شبح ساعة واحدة كان كفيلاً باعتراف الشخص بأي شيء يريدونه”.

في قصة مماثلة، لكن الضحية في هذه المرة كانت امرأة من ريف إدلب، تم اعتقالها وتعرضت للتعذيب للاعتراف بمكان زوجها “المطلوب”.

وتروي سناء (٤٥عاماً)، ما حدث معها في ذلك اليوم: “كان ذلك في بداية شهر رمضان الماضي، توجهت حينها لإحضار سلة إغاثة من مركز توزيع الإغاثات بإدلب المدينة، وبعد استلامي السلة وأمام البوابة الخارجية للمركز استوقفتني سيارة بها عناصر من الأمن وقاموا باصطحابي إلى إحدى الأفرع”.

في هذه الأثناء تعرضت سناء “للشتم والضرب والإهانات” لتعترف بمكان تواجد زوجها المطلوب، “لا زالت آثار الضرب بخرطوم التمديد الصحي ظاهرة على جسدي، لقد قاموا بكسر إحدى أصابع يدي” فما كان منها إلا أن اعترفت “تحت الضرب” بمكان زوجها الذي تم مداهمة مكانه واعتقاله على الفور ليتم إطلاق سراحها هي لاحقاً.

“قانون الغاب”

وقال ياسين سليم (اسم مستعار)، وهو حقوقي ينشط في إدلب المدينة ومطلع على ما يجري داخل السجون وآلية عمل القضاء لدى جبهة النصرة، إن “القضاء التابع للنصرة لا يستند إلى أي قوانين. لا عمل لي ولا لغيري من المحامين في هذه المسائل”.

وأضح المحامي: “لا يحق للمعتقلين القيام بأي إجراءات قانونية خلال فترة اعتقالهم، ولا يسمح لغالبيتهم بلقاء أقربائهم أو التواصل مع الخارج خلال فترة الاحتجاز”.

ولدى دور القضاء جماعة تسمى “المتابعة” وهي لجنة مهمتها الدفاع عن المظلومين بدل عن محامي النيابة العامة في المحاكم المدنية، لكن “المضحك في الأمر أن جماعة المتابعة لا تختلف في دورها عن الجلادين والمحققين بشيء، فهي تضرب وتحقق وتتمتع بصلاحيات المحققين ذاتها “، بحسب سليم.

وأضاف: “إنه قانون الغاب.. القوي يأكل الضعيف”.

وقال خالد المصطفى إن سجن “العقاب” كان يضم أكثر من /٨٠٠/ معتقل في معتقل “التفرة” الذي كان فيه قبل نحو عامين، حوالي /٢٠/ بالمئة منهم “جنود نظام” وهؤلاء كانوا “مرفهين” ويصلهم كل ما يطلبونه حتى السجائر، كما أن نسبة /٢٠/ بالمئة تقريباً كانوا من مقاتلي تنظيم “داعش”، أما البقية فهم من مقاتلي “الجيش الحر”، وكانت التهم الموجهة إليهم هي “عمالة للغرب، مقاتل في درع الفرات، سرقة، تفجيرات، مرتد وغيرها من التهم”.

ويعاني عشرات السجناء في “العقاب” من أمراض جلدية كالصدفية والتهابات الجلد (أكزيما) بسبب الجو العام للسجن، وخاصة ممن يقضون فترات طويلة بالمنفردات والتي تحتوي على مراحيض داخلية تطوف بين الحين والآخر ويضطر السجناء للجلوس بين مياه الصرف الصحي في أرضية الزنزانة عدة أيام ريثما يتم إصلاحها، عدا عن القمل والجرب والأمراض التنفسية كالسل، وفق شهادات من تحدثوا لنا.

وأصدرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان في ٢٣ آب/أغسطس ٢٠١٩ تقريراً وثقت فيه اعتقال جبهة النصرة /٢٠٠٦/ أشخاص منذ مطلع العام ٢٠١٢ حتى تاريخ نشر التقرير، بينهم /٢٣/ طفلاً و/٥٩/ امرأة.

وقالت المنظمة إن /١٩٤٦/ شخصاً من بينهم تحولوا إلى مختفين قسرياً، ووثق التقرير ذاته مقتل ما لا يقل عن /٢٤/ شخصاً تحت التعذيب، بينهم طفل واحد، إلى جانب /٣٨/ شخصاً تم إعدامهم ميدانياً ولم تسلم جثامينهم لذويهم.