عفرين بعد عامين من الاجتياح .. أكثر سكانها مهجرون
ريف حلب الشمالي- دجلة خليل- نورث برس
على بعد نحو 20 كيلومتراً، لا يزال عشرات الآلاف من مهجري مدينة عفرين وريفها في ريف حلب الشمالي، ينتظرون بفارغ الصبر العودة إلى منازلهم.
عامان مرا منذ أن فرض اجتياح الجيش التركي وفصائل المعارضة التابعة له، منذ آذار/ مارس 2018، على هؤلاء المدنيين أن يسلكوا طريق "جبل الأحلام" متجهين جنوباً، تاركين وراءهم بيوتهم وممتلكاتهم، وحياة شاركوها خلال سنوات الأزمة السورية مع عشرات الآلاف من نازحي مناطق سورية عديدة.
منذ ذلك الحين، ولم تترك فصائل المعارضة الموالية لتركيا أية ممارسات أو انتهاكات كانت تتهم بها قوات الحكومة السورية بارتكابها بحق حاضنتها ومناطقها إلا وارتكبتها في عفرين ونواحيها السبع، وفق ما وثقته عشرات التقارير الحقوقية المحلية والدولية.
الثامن عشر من آذار/ مارس 2018 بات يعرف حالياً بـ"يوم الجراد"، حينها وثقت عدسات وكالات أنباء عالمية عشرات الصور والتسجيلات المصورة لما تعرضت له عفرين من عمليات سلب ونهب على يد عناصر فصائل الجيش الوطني السوري التي كانت تحتفل بالذكرى الثامنة لانطلاقة الاحتجاجات في سوريا، وهي الصور والتسجيلات التي اعتبرتها جهات حقوقية أدلة دامغة على "جرائم حرب"، بينما رآها أهل المدينة أدلة تدعم ما سبق أن اتُهمت به هذه الفصائل من أعمال نهب مماثلة طالت حتى الدجاج والمواشي في أرياف المدينة بعيداً عن الأعين والكاميرات.
تغيير ديمغرافي
قبل بدء العملية العسكرية كان الرئيس التركي قد حشد كل إمكاناته الإعلامية وآلته الدعائية، مسخراً حتى الجوامع ورجال الدين من أجل إعلان حرب "إسلامية" يخوضها "الجيش المحمدي" ضد "كفار وملاحدة"، ليؤكد في أكثر من مناسبة أنه سيعيد عفرين إلى أهلها الأصليين، معتبراً أن نسبة السكان الحقيقة فيها هي 55% من العرب، و35 من الكرد ، و15% من التركمان.
اتهامات التغيير الديمغرافي أثبتتها دراسة للباحث السوري، خير الله الحلو، أجراها لمصلحة مشروع "زمن الحرب وما بعد الصراع في سوريا" تحت إشراف الجامعة الأوروبية في فلورنسا، والتي خلُص فيها إلى أن أنقرة "أحدثت تغييراتٍ في نسبة التمثيل السكاني عند تشكيل المجالس المحلية في عفرين، فارضةً تقسيماً غير عادل كان للعرب حصّة كبيرة منه، وأُسُساً لوجود التركمان بصفتهم القومية في عفرين. كما أوجدت نخبة سياسية كردية جديدة من الموالين لها، وأقصت التكنوقراط الكرد عن العمل في المجالس المحلية".
وخلال العامين المنصرمين، تذهب كل التقارير والأخبار الواردة عن يوميات الأهالي الباقين تحت سطوة هذه الفصائل، إلى أن مخطط التغيير الديمغرافي سارٍ على قدم وساق، ولكنه للأسف يجري في ظل استغلال تركي لمأساة سوريين آخرين يؤكدون أنهم ضحايا لتغيير ديمغرافي مماثل في مناطقهم.
وكلما استجدت مأساة جديدة في مناطق سوريا أخرى، تكون هناك فرصة جديدة لتركيا ورئيسها أردوغان لكي تسخرها في تحقيق مخططها في تغيير ديمغرافية المنطقة، الأمر الذي وثقته "نورث برس" في أكثر من تقرير خلال عام من تغطيتها للانتهاكات في عفرين وريفها.
إذ عمدت تركيا والفصائل التابعة لها مع بداية سيطرتها على مدينة عفرين إلى استقدام عوائل من مناطق غوطة دمشق، وريفي حماة و حمص، بلغ عددهم نحو /400/ألف شخص ممن أسكنتهم في عموم قرى ونواحي المنطقة، فيما وطّنت أكثر من 500 عائلة فلسطينية، في قرية دير بلوط ومركز مدينة عفرين، بحسب "مركز التوثيق المدني للاجئين الفلسطينيين في الشمال السوري".
وتؤكد مصادر "نورث برس" أن عدد سكان المدينة الأصليين لا يتجاوز حالياً 18% في أفضل الأحوال، ذلك أن الهجوم التركي على المنطقة خلف نزوح نحو /300/ ألف من سكان المنطقة إلى محافظة حلب وأريافها الشمالية، فيما لا يزال التهجير مستمراً بأساليب وطرق جديدة يتم بها التضييق على من تبقى من الأهالي الرافضين مغادرة بلداتهم وقراهم.
الخطف والاعتقال كمصدر تمويل
ومن أحد أكثر الأساليب التي لا تزال تتبعتها الفصائل التابعة لتركيا للضغط على الأهالي، وفق تقارير العديد من المنظمات الحقوقية، هي استخدام عمليات الخطف العلنية أو تلك المخفية تحت جنح الظلام، لأجل الحصول على الفدية، فبينما كانت الفصائل والمؤسسات الأمنية المنشأة من قبل الجيش التركي تعتمد أسلوب الخطف والاعتقال تحت حجة تعامل سابق للمختطفين مع مؤسسات الإدارة الذاتية المدينة أو العسكرية، كانت هناك عصابات مسلحة تختطفهم بمبالغ وصلت في إحدى المرات إلى 25 مليون ليرة سورية، وهو ما كان يتم تحت أنظار الجيش التركي وفصائله دون أن يتحركوا لضبط حالة الفلتان الأمني في المنطقة.
وعدا سوء المعاملة التي وثقتها منظمة "هيومن رايتس وتش" في تقريرها السنوي لأحداث العام 2019 في سوريا، من أن "هذه الفصائل ارتكبت جرائم حرب، واستهدفت المدنيين واحتجزت رهائن وفخخت السيارات، ومارست اعتقالات تعسفية، وابتزاز، وتعذيب"، وفق ما ورد. فإن منظمة حقوق الانسان – عفرين تذهب إلى أن عدد المعتقلين والمخطوفين بلغ عددهم /6200/ شخص، منهم أكثر من / 3400 / مختطف من بينهم نساء، لا يزال مصيرهم مجهولاً حتى الآن، وفق ما يؤكده الحقوقي إبراهيم شيخو لـ"نورث برس".
التضييق على النساء
إلى جانب ذلك فرضت تلك الفصائل طابعاً متشدداً على المدنية المعروفة بتقاليدها في احترام المرأة وتبوئها مكانة في العائلة والمجتمع الكردي، حيث فرضت هذه الفصائل منذ بداية سيطرتها ارتداء الحجاب على النساء والإلزام باللباس الإسلامي الشرعي، وهو ما أشارت إليه "هيومن رايتس وتش" في تقريرها السنوي أيضا مؤكدة أن الفصائل "فرضت قواعد صارمة على لباس النساء والفتيات"، فيما استطاعت منظمة حقوق الانسان –عفرين، توثيق /61/ حالة اغتصاب.
سرقة الآثار وقطع الاشجار
لكن انتهاكات الفصائل الموالية لتركيا لم تقتصر على سكان المنطقة فقط، بل بات هناك عشرات التقارير التي وثقت تعدي الجيش التركي والفصائل التابعة له على آثار المنطقة، من تنقيب وتجريف وتدمير بواسطة جرافات طال / 28 / موقعاً وتلةً ومستودعاً أثرياً و/15/ موقعاً دينياً، موثقة بالصور والفيديوهات من أصل 29 موقعاً أثرياً، وفق يؤكد الخبير الأثري صلاح سينو، لـ"نورث برس".
ويذكر" سينو" أن "من ضمن الآثار التي تم سرقتها ونقلها، الأسد البازلتي في موقع عين دارا واللوحات الفسيفسائية في موقع "النبي هوري" التي كانت مسجلة على لائحة اليونسكو للتراث الثقافي العالمي".
سرقة الزيتون
مسلسل الانتهاكات التركية وفصائلها طال حتى لقمة الأهالي في المنطقة، كأحد أساليب الترهيب المتبعة من أجل إجبار الناس على ترك منازلهم التي لم يتركوها بأساليب أخرى، فمنذ بداية سيطرة الفصائل المسلحة الموالية للجيش التركي على عفرين، فرضت ضرائب على مزارعي الزيتون وعلى أصحاب المعاصر، كما استولوا على إنتاج حقول الزيتون التي هُجر أصحابها بفعل الهجوم.
رشيد طاري، ابن الـ/85/ عاماً، أحد المهجرين المقيمين بريف حلب الشمالي حالياً، هو أحد الأمثلة لأولئك المدنيين الذين خسروا كل شيء كانوا يملكونه.
يتحدث الثمانيني عن خسارته مساحات واسعة من أشجار الزيتون، إلى جانب قيام فصيل السلطان سليمان شاه المعروف بـ"العمشات" بسرقة جميع ممتلكاته بتهمة كونه عنصراً في وحدات حماية الشعب، رغم أن "كبر سني ينفي إمكانية حملي للسلاح".
عمليات النهب التي طالت زيتون عفرين ومزارعيها، أغدقت على تركيا نحو 100 مليون دولار أمريكي بحسب خبراء اقتصاديين. وذلك بعد أن فرضت على المزارعين عدم بيع منتجاتهم إلى المناطق الخاضعة تحت سيطرة الحكومة السورية أو الإدارة الذاتية، حيث عمدت الدولة التركية إلى شراء الانتاج من خلال سماسرة وتجار أدخلتهم باعترافات وزير الزراعة والغابات التركي، بكر باكدميرلي، الذي قال في جلسة أمام البرلمان التركي العام نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، إن بلاده تريد أن تبيع خمسين ألف طن من زيتون عفرين لخارج البلاد، وإنها قامت حتى الآن بقطف ستمئة طن من الزيتون وأخذه إلى تركيا.
وفي حين تحدثت تقارير صحفية غربية من أن عائدات تركيا بلغت 19 مليون يورو من بيع زيت زيتون عفرين لإسبانيا، بعد أن قامت تركيا بتزوير وثيقة بلد المنشأ. يؤكد تقرير لموقع "بي بي سي عربي" أن أشجار الزيتون التي يتجاوز عددها في عفرين 18 مليون شجرة تحولت إلى مصدر دخل لفصائل المعارضة السورية ولتركيا منذ احتلالها للمنطقة".
القطع الجائر
إلى جانب هذه السرقة، لم تسلم الأشجار من القطع الجائر والتعدي لتفقد المنطقة خلال عامين جزءاً كبيراً من غطائها النباتي ومن أشجارها المثمرة بما فيها الزيتون، وحيث يجري الحديث في الأيام الأخيرة عن اختفاء غابات بأكملها، وثقت المنظمات الحقوقية تعرض ما لا يقل عن / 150 / ألفاً من أشجار الزيتون والأشجار الحراجية، من بينها تم قطع أكثر من / 300 / شجرة معمرة ونادرة وذلك للإتجار بحطبها، كما قطعت / 15 / ألف شجرة سنديان، إضافة إلى احتراق أكثر من / 10 / آلاف من أشجار الزيتون والأشجار الحراجية، عدا احتراق ما يعادل / 2180 / دونماً من المحاصيل الزراعية، بحسب ما وثقته منظمة حقوق الانسان- عفرين المحلية.
مهجرون في مخيمات
يستقر مهجرو مدينة عفرين حاليا في مناطق ريف حلب الشمالي التي تقع تحت سيطرة الحكومة السورية في حوالي /42/ قرية و /5 / مخيمات هي " سردم، برخدان، عفرين، العودة، شهباء" حيث بلغ عدد العوائل / 1765 / تضم /7044/ فرداً، بحسب إحصائيات هيئة شؤون الاجتماعية مقاطعة عفرين، فيما بلغت أعداد المهجرين في قرى وبلدات ريف حلب الى /101775/ فرداً اغلبهم في مدينة تل رفعت وإحرص وفافين.
وقد استمرت انتهاكات الفصائل التابعة للدولة التركية بحق النازحيين العفرينيين في مناطق نزوحهم في الشهباء، ليسقط العشرات منهم بين قتيل وجريح في حوادث قصف متكررة على القرى و المناطق الآهلة بالمدنيين والنازحين في قرى وبلدات ريف حلب الشمالي بشكل شبه يومي.
حيث بلغ عدد الضحايا المدنيين جراء القصف على مناطق نزوحهم إلى /44/ قتيلاً و/89/ جريحاً، بحسب ما أكده "روج كلكو "،مدير مكتب الإعلام للهلال الأحمر الكردي- فرع عفرين.
ماذا ينتظر المنطقة؟
وحيث لا يزال مصير المنطقة مجهولاً وربما معلقاً بما ستؤول إليه الأزمة السورية عموماً ، تتزايد الخشية، في حال إطالة أمد الأزمة السورية، من أن تتمكن تركيا من تنفيذ رؤيتها التي تعتمد "على بلورة سياسة تتريك سريعة للمنطقة، بهدف ربطها بها على المدى المتوسط، آخذةً بعين الاعتبار كل الاحتمالات لمستقبل سوريا، فإن اتّجهت سوريا نحو التقسيم، تكون أنقرة قد أخذت حصّتها مسبقاً"، وفق ما يذهب خير الله الحلو، في دراسته المعنونة "عفرين بعد السيطرة التركية: تحوّلاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية" والتي صدرت بداية تموز من العام 2019.