تحليل – ثلاث معضلات متداخلة يراد إبرازها برسالة أوجلان

ألمانيا – فرهاد حمي
في المؤتمر الصحفي الذي عقد أمس في إسطنبول، أعلن محاميو الزعيم الكردي عبد الله أوجلان جملة من توصيات ورسائل مقترحة باسم أوجلان بغرض إطلاع الرأي العام المحلي والإقليمي على ما دار بينهم في الزيارة الأخيرة التي جرت  بــــ 22 من هذا الشهر.
عادة، ما يميز خطاب أوجلان أثناء نقل محتوى الرسائل إلى الرأي العام، هو إبراز مفردات وجمل تحمل دلالات قانونية وفكرية وفلسفية وسياسية بصورة متداخلة نتيجة تعقيد المشهد الاجتماعي والسياسي في تركيا ودول الجوار؛ أي لا تقتصر على حيز المعلومات والأخبار اليومية، ولا هي ردة فعل آنية تتناول موضوع بعينه، بل هي عبارة عن اقتراحات تبحث عن حلول شاملة، تستدعي مخزون فكري وسياسي وقانوني متماسك، بغرض تجاوز “السياسية الترقيعية والنفعية”، مع التأكيد بأن تلك الاقتراحات تنطلق من الوقائع اليومية التي تسود عالم السياسة والمجتمع.
 ومن أجل التحقق من محتوى اقتراحات أوجلان الأخيرة التي جاءت على لسان محاميه، يجدر تسليط الضوء على ثلاث مرتكزات حيوية استند عليها خطاب أوجلان الأخيرة.
الداخل التركي
الركيزة الأولى التي تمت إبرازها إلى الرأي العام، استهدفت مجدداً الداخل التركي الذي يعيش في ظل ” قانون الطوارئ” والتدهور الاقتصادي، وتصعيد المعارك الانتخابية على بلدية إسطنبول على خلفية جولة إعادة الاقتراع، علاوة على انتقادات دولية حادة ضد تركيا، إثر فقدان المؤسسات القانونية شرعيتها على وقع حملات الاعتقالات اليومية التي تطال المجتمع المدني والأجهزة البيروقراطية القديمة وقيادات حزب الشعوب الديمقراطي الذي كان أوجلان من أحد مؤسسي برنامجه السياسي.
 الجملة البارزة في رسالة أوجلان للرد على هذا المناخ الاستقطابي الحاد والعنيف، تمثلت في مصطلح “التوافق الاجتماعي والسياسية الديمقراطية”. 
أي  ضرورة إعادة فتح قنوات الحوار بين المؤسسات والأفراد التي تعاني من ويلات سياسة الاقصاء والعنف والتهميش، وبالتالي وجوب الخروج من المأزق السياسي التركي الراهن الذي ينأى تحت وطأة ” التسلطية المفرطة” من قبل حزب العدالة والتنمية وحليفه الحزب القومي التركي، وإعادة تهيئة المناخ السياسي بهدف الشروع في مفاوضات ديمقراطية وإحقاق سلام مشرف، غالباً، ما يقصده أوجلان بـ:” السلام المشرف” هو استحضار روح نموذج” جنوب أفريقيا” وجمهورية إيرلندا الشمالية، ولا يؤطر السلام بالنزاع السائد بين حزب العمال الكردستاني وأحزاب الدولة التركية فقط، بل يخاطب جميع الفئات السياسية والاجتماعية، أي تلك في السلطة وتلك التي تنشط بين المجتمع.
 مراهنة أوجلان في هذا التوقيت تنبع من عاملين: الأول، انسداد المقاربة التسلطية من قبل حزب العدالة والتنمية وحليفه الحزب القومي التركي في خلق توازن داخل المجتمع عبر احتكار السلطة، والتلاعب على قوة القانون على أمل الاستمرارية في الحكم، وهذا ما كشفته نتائج الانتخابات البلدية الأخيرة في تركيا حسب المراقبين، واعتبروا أن هذا الحدث يوحي بنهاية هذه الحقبة. بينما كانت تصريحات أحمد دواود أوغلو في هذا الأسبوع، تختزل هذه المرحلة بصورة دقيقة، حينما شدد بقوله: “ليس المهم أن نفقد السلطة، بل ما هو الخطير أن نفقد الأمل بين المجتمع”.
في حين يشكل السياسة التركية الإقليمية والدولية العامل الثاني، وتحديداً في مقامرة السلطة الحاكمة اتخاذ موقع المراوحة والاستدارة اللحظية بين روسيا والمعسكر الغربي. وسبق أن حذر أوجلان من خلال مرافعاته، بأن موقع الجيوستراتيجي التركي لا يتحمل انعطافات حادة نحو روسيا، نظراً إلى الترابط التاريخي المعقد والمتشابك بين أجهزة الدولة التركية مع المفاصل السياسية الغربية (وعلى رأسها مسألة الأمن والليبرالية الاقتصادية المفتوحة)، وتداخل الإرث الكمالي الغربي مع نزعة حزب العدالة والتنمية الذي يستورد أدبياته الاقتصادية من الغرب وفق أوجلان. 
تأكيداً لهذه الرؤية تواجه تركيا، وفق المراقبين الذي يتابعون مسار حيثيات صفقة إبرام 400S- مع روسيا، مخاطر كبيرة قد تضع مصير البلاد على حافة الهاوية. ومن المرجح أن أوجلان يلتمس هذه المخاطر لدى دوائر الحاكمة في البلاد، وبناء على ذلك ناشد ثلاثة فئات ( بيروقراطية الدولة، والأحزاب السياسية التي تؤمن بأهمية الديمقراطية، والمجتمع المدني) بأهمية إعادة فتح ملف السلام. وتبعاً لأوجلان يشكل السلام إعادة قاطرة التوازن التركي إلى مكانه الطبيعي.
الركيزة الثانية
غير أن أوجلان في توصياته الأخيرة لم يترك هذه الاقتراحات بدون آلية زمنية غير محددة، حيث حدد /30/ إلى /40/ يوماً من أجل معرفة النوايا المنتظرة من هذه المبادرة. وعليه تضمنت مقترحات أوجلان ركيزة ثانية، وهي مطالبة مناصريه بإنهاء حملة الإضراب عن الطعام كبادرة حسنة النية.
 لكنه اشترط في الوقت ذاته أهمية تطوير المقاومة المدنية حيال السياسات التسلطية القائمة، حيث اقترح مقاومة سلمية تستلهم من تكتيكات غاندي، عوضاً عن حملات الاضراب عن الطعام حتى الموت. كما أنه شدد بأن انسداد الحراك السياسي في تركيا في ظل المناخ الحالي، يجدر أن يقاوم من خلال ترسيخ مقاومة “الثقافة السياسية” التي تطلب من الفرد والمؤسسات، تطوير القوة الذهنية والسياسية والروحية، أي المعرفة الفكرية، والبعد السياسي، وترسيخ الأخلاق العقلاني كأدوات حيوية في حقل السياسة والدفاع المدني، كما جاء في مرافعاته المعنونة” سيوسولوجيا الحرية” الذي نشره في السجن قبل اندلاع النزاع السوري. 
معضلة سوريا
لم يكن فقط الرأي العام التركي المعني الوحيد بتوصيات أوجلان، بل تمحورت الركيزة الثالثة مجدداً حول تناقضات الصراع السوري، لما يشكل هذا الملف من أهمية قصوى لدى القوى السياسية الكردية في سوريا المتمثلة في قوات سوريا الديمقراطية والجانب التركي الذي يطلق يومياً تهديدات باجتياح شرقي الفرات. اللافت هذه المرة هو أن تقديم أوجلان نفسه على أن يساهم بدور وسيط وفعال بغرض حل المعضلة السورية.
خارطة طريق أوجلان حيال سوريا وفق ما جاءت في مقترحاته الأخيرة، تنطلق من وحدة سوريا عبر صياغة دستورية جديدة، تضمن حقوق الكرد والمكونات الاجتماعية والثقافية الأخرى في سوريا؛ أي أن عقيدة “المواطنة” التي تتمسك بها غالبية القوى المعارضة السورية وتشاطر فيها مع السلطة السورية الحالية، لا يمكن أن تحقق انفراجاً سياسياً وفق أوجلان، فيما لو لم تتسع دائرة هذه المقاربة، لتحتوي وتصون الحقوق الجماعية والثقافية على مستوى المجتمعات المحلية. هذه الرؤية تتقاطع بشكل كبير مع تصورات الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور.
على ما يبدو أن أوجلان الذي يستند رؤيته بصورة جوهرية على الحقوق المنطلقة على احترام ثقافة المجتمعات المحلية في سوريا، وتمكين الإرادة السياسية المحلية بالتناغم مع المعايير الدولية، لا يمكن أن يقدم تنازلات مع خطاب المعارضة والنظام السوري، الذي يشترط في أي مفاوضات مع ممثلي شمال شرقي سوريا بضرورة تبني رؤية “المواطنة” بعيداً عن المكاسب الجماعية القانونية، وهذا تماماً ما يعتبر بمثابة “خط أحمر” في أية مبادرة مقترحة من قبله.