القاهرة- نورث برس- محمد أبوزيد
منذ فجر التاريخ يمثل "نهر النيل" شريان الحياة بالنسبة للمصريين، فقد أقام على ضفافه المصريون القدماء حضارتهم، وعبدوه وقدسوه، وسمّوا فيضانه بـ"الإله حابي" الذي قدّموا إليه القرابين..
وعلى مدار الـ /13/ عاماً الماضية تحديداً، وعلى رغم الظروف السياسية التي مرّت بها مصر منذ العام 2011 وحتى الإطاحة بحكم "الإخوان" في العام 2013، لم تهدأ مخاوف المصريين وقلقهم على نهر النيل، وحصة بلادهم من المياه، وذلك منذ أن لوّحت إثيوبيا في العام 2006 باعتزامها بناء سد على مجرى النيل، وقد حذّر الرئيس المصري آنذاك، حسني مبارك، الجانب الإثيوبي من مغبة ذلك الأمر.
قبل التلويح الإثيوبي ببناء السد في العام 2006، كانت توترات سياسية سابقة مرتبطة بمياه النيل قد نشبت بين مصر وإثيوبيا، لاسيما في عهدالرئيس محمد أنور السادات، بخصوص إبداء مصر رغبتها في مد مياه النيل إلى سيناء في العام 1979.
عارضت إثيوبيا هذا التوجّه، وتقدّمت بشكوى ضد مصر في منظمة الوحدة الإفريقية، كما هددت بـ "تحويل مجرى النيل"، قبل أن يتم إبرام معاهدة لتسوية المنازعات بين البلدين بعد ذلك بست سنوات.
وفي شهر تموز/يوليو من العام1993، وقَّع مبارك مع رئيس الوزراء الإثيوبي زيناوي، وثيقة تفاهم تضمنت التأكيد على عدم قيام أي من الدولتين بأي نشاط يتعلق بمياه النيل من شأنه إلحاق الضرر بمصالح الدولة الأخرى. لكنّ إثيوبيا راحت منذ العام 2006 تلوح بملف بناء السد، الذي أطلق عليه "سد النهضة".
تطورات تلو الأخرى شهدها ملف السد حتى صار أمراً واقعاً في العام 2011. ومنذ ذلك الحين فقد شهدت السنوات الماضية جولات من المفاوضات، وتقارير فنيّة، وشد وجذب مصري وإثيوبي، ثم مؤخراً وساطة أمريكية، وانسحاب إثيوبي منها. بينما المصريون يحبسون أنفاسهم انتظاراً لحسم مصير واحدة من أبرز الأزمات، المرتبطة بركيزة أساسية من ركائز الحياة في بلدهم منذ فجر التاريخ.
نفي إثيوبي
رئيس وزراء إثيوبيا حينها في 2010 ميليس زيناوي، والذي نفى لمبارك نية بلاده اتخاذ تلك الخطوة أو حجز مياه النيل، أعلن في تصريحات إعلامية له عن اتجاه بلاده لبناء السد، وقال إنه "ليس من حق مصر منع إثيوبيا من إقامة سدود على نهر النيل"، ثم صعّد لهجته في العام ذاته، وقال إن مصر "لا يمكن أبدا أن تنتصر في حرب ضد إثيوبيا بشأن النيل".
ومع انشغال مصر بتطورات سياسية داخلية فاصلة (ثورة يناير 2011)، وضعت إثيوبيا، في شهر نيسان /أبريل من العام 2011، حجر الأساس للسد، الذي من شأنه التأثير في حصة مصر السنوية من مياه النيل والبالغة /55/ مليار متر مكعب.
أول تحرّك مصري بعدما صار موضوع بناء السد أمراً واقعاً، جاء في أيار/مايو من العام ذاته، حين زار رئيس الوزراء المصري في تلك الفترة عصام شرف، إثيوبيا، واتفق مع زيناوي على تشكيل لجنة ثلاثية لبحث التأثيرات المحتملة للسد على كل من مصر والسودان باعتبارهما دولتي المصب، وهي اللجنة التي عقدت أولى اجتماعاتها في شهر تشرين الثاني/نوفمبر من العام ذاته.
توالت بعد ذلك اجتماعات اللجنة الفنيّة الثلاثية، واجتماعات على مستوى وزراء الخارجية والري، وحتى رؤساء أجهزة المخابرات، إضافة إلى اجتماعات القمة.. ومخاوف المصريين لم تنطقع من التأثير المحتمل للسد في حصتهم من المياه.
مؤتمر أثار الجدل
في العام 2013، وأثناء حكم الإخوان، حدثت "سقطة" المؤتمر الشهير، حين عقد الرئيس السابق محمد مرسي، مؤتمراً مع نخب سياسية لمناقشة أزمة السد، أذيع على الهواء مباشرة، وتضمن تلميحات بـ"الخيار العسكري"،إذ لم يكن بعض المشاركين يعلمون أن المؤتمر مذاع على الهواء مباشرة.
عقب الإطاحة بمرسي بعد شهر واحد من ذلك المؤتمر، توقفت المفاوضات. وحينها كانت القاهرة مشغولة بما تشهده من تطورات داخلية مفصلية (ثورة حزيران/يونيو 2013)، قبل أن يتم استئناف المفاوضات من جديد في العام 2014، وتحديدا في حزيران /يونيو من نفس العام، بعد اتفاق الرئيس عبد الفتاح السيسي مع رئيس وزراء إثيوبيا، هايلي ديسالين، على استئناف عمل اللجنة الثلاثية.
وفي شهر تشرين الأول/ أكتوبر من العام ذاته، اتفقت الدول الثلاث على اختيار مكتبين استشاريين (هولندي وفرنسي) لإجراء دراسات حول السد.
وشهد العام 2015، تقدما إيجابيا في المفاوضات، حينما وقّع رؤساء الدول الثلاث ما سمي بـ"إعلان المبادئ"، وكان أبرز ما تضمنه ذلك الإعلان (تحديد مدة لا تزيد على أحد عشر شهرا لإعداد دراسة فنيّة عن السد، والاتفاق على كيفية إنجاز السد وتشغيله دون الإضرار بدولتي المصب).
اجتماعات فنية
ثم جاء العام 2016، والذي شهد عددا من الاجتماعات الفنية المتقطعة، التي تم الاتفاق فيها على عدد من التفاصيل المرتبطة بالدراسات الفنيّة. وجدّدت إثيوبيا التأكيد، على لسان وزير المياه هناك، أنها "لن تتوقف لحظة عن بناء السد"، وذلك بموازة تأكيدات متكررة من السلطات المصرية بأنها "لن تفرط أبدا بحق مصر في المياه".
وفي العام2017، تم الانتهاء من التقرير المبدئي حول السد في شهر أيار/ مايو، وسط خلاف بين الدول الثلاث حول التقرير ونتائجه. وفي نيسان/ أبريل من العام2018، أعلنت مصر عن عدم التوصل لاتفاق جديد، مع استمرار المشاورات لحل الخلافات العالقة.
وذلك عقب اجتماع لوزراء الخارجية والري ورؤساء أجهزة المخابرات بالدول الثلاث. وبعدها، وتحديدا في شهر حزيران /يونيو، انعقدت قمة بين الرئيس السيسي ورئيس الوزراء الأثيوبي، أقسم الأخير بعدها -بطلب من الرئيس المصري- على عدم الإضرار بحصة مصر من المياه.
وفي أيلول /سبتمبر أيضا، أعلنت مصر عن أنه لم يتم التوصل لنتائج محددة بعد اجتماع ثلاثي عقد في إثيوبيا؛ ليتعثر بعد ذلك انعقاد اجتماعات جديدة لعدة أشهر.
وشهد العام 2019 استئناف المفاوضات، بداية من شهر أيلول /سبتمبر، حين انعقدت لمدة ستة أيام اجتماعات على المستوى الوزاري في الخرطوم. ثم في شهر تشرين الأول/ أكتوبر أعلنت مصر عن أن "الأمور وصلت إلى طريق مسدود".. وطالبت بوساطة دولية لحل الخلافات.
وفي الشهر ذاته، ألمح رئيس الوزراء الأثيوبي آبي أحمد إلى إمكانية خوض بلاده حربا مع القاهرة؛ بسبب أزمة سد النهضة، وهي التصريحات التي أبلغ آبي أحمد الرئيس السيسي بأنها اجتزئت من سياقها. وأكد تمسك بلاده بمسار المفاوضات، حتى الوصول إلى اتفاق نهائي.
وساطة أمريكية
ثم دخلت الولايات المتحدة الأمريكية على خط الوساطة من أجل كسر الجمود بملف المفاوضات، كما أعلنت روسيا عن استعدادها للوساطة أيضا. ووافقت إثيوبيا على حضور اجتماع الوساطة الأمريكي، كما أعلنت مصر عن مشاركة البنك الدولي في الاجتماع.
انعقدت سلسلة اجتماعات في الولايات المتحدة الأمريكية بين الدول الثلاث تم فيها الاتفاق على شروط لآلية ملء السد وإجراءات التعامل مع الجفاف، والتنسيق الثلاثي بين مصر وإثيوبيا والسودان، إضافة إلى أحكام تتعلق بالأمان وحالات الطوارئ، كما تم أيضا الاتفاق على "قواعد التشغيل طويل الأمد".
إلا أن إثيوبيا أعلنت بعدها انسحابها من المشاركة في اجتماعات التفاوض المتعلقة بسد النهضة بالولايات المتحدة، وأعلنت عن أنها ستواصل بناء السد وملء الخزان؛ لتزيد الملف -بذلك الموقف- اشتعالا.
الموقف الأثيوبي فتح باب الحديث عن سيناريوهات وخيارات بديلة للقاهرة، لاسيما مع الموقف السوداني الذي تُطرح عليه عديد من علامات الاستفهام.
ولا يستثني مراقبون الخيارات الخشنة في التعامل مع الملف، باعتبارها مطروحة إلى جانب المسارات الدبلوماسية والسياسية والقانونية، على اعتبار أن حصة مصر من مياه النيل "مسألة حياة أو موت".