نورمان العباس – دمشق
في ظل غياب مشهد رقمي واضح في سوريا وافتقار الرؤية الاستراتيجية، تُبنى السياسات الاقتصادية على أسس توصف بـ”العشوائية”، ما يطرح تساؤلات جوهرية حول مرتكزات الاقتصاد السوري الحالي.
فهل توجد بيانات دقيقة يعتمد عليها صنّاع القرار لتقييم الواقع الاقتصادي؟ وما مدى موثوقية الأرقام المتوفرة في ظل غياب الشفافية؟
سياسة اقتصادية غامضة
يرى قصي الدوخي، من سكان دمشق، أن السياسة الاقتصادية غير واضحة، وأن الوضع الاقتصادي في البلاد منهار، مطالباً بتفعيل الرقابة المالية والتفتيش.
ويشير لنورث برس، إلى أن أغلب السوريين يعيشون تحت الحد الأدنى للفقر، مشدداً على أهمية الاستعانة بالخبرات من الداخل والخارج في هذه المرحلة لإعادة هيكلة المؤسسات.
فيما ترى الصحفية السورية رغدة خويس، أن أكثر من 90 بالمائة من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، واصفة الأسعار بـ “الخيالية مقارنة بالرواتب التي لا تكفي ليومين”.
وتشير إلى أن الموظف يقف خمسة أيام للحصول على راتب يصرف في يوم واحد.
وتضيف لنورث برس، أن “الوضع المعيشي سيئ، ولم نرَ قرارات مدروسة تُنفذ، ولا يوجد شيء يُطبق على أرض الواقع”, مشددة على ضرورة “عدم تجميد خبراتنا”.
أما حسام حاج إبراهيم، من سكان دمشق، فيرى أن الخبير السوري الخبرات السورية التي لجأت ودرست في الخارج خلال سنوات الحرب، اكتسبت زخماً علمياً وافراً ويجب الاستعانة بها.
ويضيف لنورث برس، أنه لا يمكن بناء اقتصاد بشكل عشوائي، بل يجب أن يكون هناك أرقام وتحليل واستبيانات من الشارع والناس والخبراء، مطالباً بوجود هيئة ناظمة مسؤولة عن رفع الأرقام إلى الحكومة.
ركود أم تضخم؟
يقول الدكتور ياسر المشعل، الأستاذ في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق، إن الاقتصاد السوري يُبنى حالياً على أساس ردّات الفعل، أو ما يُعرف في المصطلح الاقتصادي بـ”إطفاء الحرائق”.
ويضيف أن المعالجة الحالية تقتصر على حل المشكلات الصغيرة الآنية دون وجود استراتيجية متكاملة، مشيراً إلى أنه لم يتم حتى الآن بناء تصور مستقل للاقتصاد السوري، بل يجري التعامل فقط مع المشكلات الطارئة بشكل مؤقت.
ويصف المعالجات بأنها قصيرة الأجل وتركز على ملفات صغيرة، مشدداً عدم وجود خطة اقتصادية واضحة لسوريا ما بعد التحرير، كما يشدد على ضرورة تشخيص الواقع الاقتصادي بشكل واقعي خلال السنوات الـ24 الماضية، عبر حساب فجوات الدخل، وفجوات التضخم والركود.
وفيما يخص البيانات، يبين “المشعل” أن البيانات موجودة وتشمل معلومات من المكتب المركزي للإحصاء تعود لـ24 عاماً، وتصل درجة دقتها وموثوقيتها إلى نحو 70 – 80 بالمائة.
كما يشير إلى إمكانية الاعتماد على بيانات البنك المركزي وهيئة تخطيط الدولة لبناء الخطط الاقتصادية.
وضرب مثالاً على سوء التشخيص، حين كان يُعتقد أن التضخم في سوريا هو تضخم نقدي ناجم عن الكتلة النقدية، لكن بالرجوع للبيانات تبيّن أن التضخم هو تضخم هيكلي، وبالتالي فإن السياسات النقدية الحالية مثل حبس السيولة لن تكون مجدية وقد تُنتج آثاراً عكسية.
ويرى الخبير الاقتصادي، أن الحل يبدأ من تشخيص الواقع الاقتصادي بشكل صحيح، وتحديد الفجوات، متسائلاً “هل نعاني من ركود أم تضخم؟” وأوضح أن البيانات تشير إلى وجود ركود هائل نتيجة ضعف البنية الاقتصادية الأساسية.
ويشدد أن المشكلة الأساسية في ضعف الإنتاج وليس في النقد، مشيراً إلى أن سياسة حبس السيولة، سواء كانت مقصودة أم لا، عمّقت الخلل الاقتصادي، ما أدى إلى ارتفاع الأسعار وتذبذب في سعر الصرف، رغم أن الفروقات ليست كبيرة.
كما يشدّد على أهمية بناء استراتيجية اقتصادية مبنية على تشخيص دقيق وواقعي، وتحديد أهداف واضحة، وخطة زمنية، مع تكامل الأدوار بين وزارة الاقتصاد، ووزارة المالية، والبنك المركزي لتحقيق تلك الأهداف.
الهوية الاقتصادية
يرى الدكتور مجدي الجاموس، أستاذ الاقتصاد بدمشق، أن سوريا لا تمتلك مشروعاً اقتصادياً وطنياً ولا هوية اقتصادية واضحة، واصفاً الاقتصاد السوري بأنه في حالة “موت سريري”، حيث تنتج جميع القطاعات بأدنى طاقتها، مما يجعل من الصعب بناء اقتصاد وطني بالاعتماد على الواقع الحالي.
ويشير “جاموس” إلى أن هناك فرصة جوهرية ظهرت بعد قرار رفع العقوبات، الذي أعاد سوريا إلى المنظومة الاقتصادية والمالية العالمية، وضمن منظومة “سويفت” للتحويلات المالية، بعد فترة طويلة من العزلة.
ويعتبر أنه من غير الممكن بناء الاقتصاد السوري بشكل فردي، مشيراً إلى أن التجربة خلال السنوات الماضية أثبتت أن الاعتماد على الذات فقط أدى إلى تدهور أغلب القطاعات.
ويشدد على ضرورة الاعتماد على المساعدات الخارجية، مبيناً أن رفع العقوبات يشكل فرصة لتشجيع الاستثمار في قطاعات حيوية كـالطاقة، والنقل، والعقارات، والتكنولوجيا.
ورغم أهمية قرار رفع العقوبات، إلا أنه يرى أن التحدي الأكبر يكمن في كيفية استغلال هذه الفرصة من قبل الحكومة الجديدة لبناء مشروع اقتصادي وطني وتشكيل هوية اقتصادية لسوريا.
وفيما يخص البيانات والأرقام، يشير “جاموس” إلى أنها ضرورية لفهم الواقع ووضع الخطط المستقبلية، لكن في الحالة السورية يتم تجاوز الأرقام لأننا في وضع كارثي، مشدداً على أن الحديث عن الأرقام يكون فعالاً فقط عندما تتشكل هوية اقتصادية واضحة.
ويرى الخبير الاقتصادي أن سوريا حالياً خارج التصنيف والمنظومة الدولية، وضرب مثالاً على ضعف الواقع الاقتصادي بالإشارة إلى أن موازنة عام 2024 لم تتجاوز ثلاثة مليارات دولار، معتبراً أن هذه “ليست موازنة دولة”.
بين واقع اقتصادي توصف معالجته بـ”ردّات الفعل”، وتضخم هيكلي يزيد من معاناة المواطنين، وبين فرص جديدة أتاحها رفع العقوبات، تقف سوريا اليوم عند مفترق حاسم يتطلب رؤية اقتصادية وطنية واضحة، مبنية على بيانات دقيقة، وتكامل مؤسساتي فعّال.