مبادئ العدالة الانتقالية وإمكانية تطبيقها في سوريا  (1)

تعتمد العدالة الانتقالية على عدَّةِ مبادئَ أساسيَّةٍ، من أهمِّها جبر الضرر الفردي والجماعي والمناطقي، بالإضافة إلى الإصلاح المؤسسي وضمانات عدم التكرار الانتهاكات، فضلاً عن حفظ الذاكرة.

العدالة الانتقالية منهجيَّةٌ من المناهجِ المتعدِّدةِ لبناءِ المصالحةِ في بلدٍ والبحث عن سُبُلِ عدمِ تكرارِ الانتهاكاتِ الجسيمةِ لحقوقِ الإنسان، عبر الإبداعِ القانونيِّ والدستوريِّ والسياسيِّ، كما أن من أهم أهدافها هو البحثُ عن صِيَغِ بناء الديمقراطية، إذْ إنَّ فقهاءَ العدالةِ الانتقاليةِ يُؤكِّدون على أنَّ الضَّمانةَ الأساسيَّةَ لعدمِ عودةِ الانتهاكاتِ الجسيمةِ لحقوقِ الإنسانِ هي قيامُ الديمقراطيَّةِ ونشرُ ثقافتِها.

من بين المبادئ الأساسية للعدالة الانتقالية هي الكشف عن الحقيقة عبر تشكيل لجان لتقصي الحقائق عن ما جرى خلال فترة معينة ويجب عليها أن تركز على الاسئلة التالية، من أَمَرَ بممارسةِ الانتهاكاتِ الجسيمةِ لحقوقِ الإنسان؟ ومن نفذ هذه الأوامر؟ ومن استفاد من تنفيذ هذه الأوامر؟

ومن الضروري تنفيذ إصلاح مؤسساتي واسع وخاصة في القضاء، الأمن، الجيش وأجهزة المخابرات، فضلاً عن إصلاح القوانين وتعزيز الشفافية، لضمان عدم تكرار الممارسات والانتهاكات الجسمية لحقوق الإنسان.

لا يمكن تطبيق العدالة الانتقالية بالاعتماد على معالجة الانتهاكات لحقوق الإنسان فقط، بل يجب أن تكون مدخلاً نحو البناء الديمقراطي ونشر ثقافة السلم وحقوق الإنسان والديمقراطية. لترسيخ هذا المبدئ يجب تعزيز الحوار بين مختلف الأطراف لتجاوز الماضي الأليم.

وإذا شئنا تلخيص كل ما ورد، لقلنا: العدالة الانتقالية ليست مجرد تعويضات، ولا فقط بحثًا عن حقيقة ما جرى من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، بل هي عملية شاملة تهدف إلى إرساء الديمقراطية من خلال العدالة، وتحقيق الاستقرار، ومنع التكرار، مما يمكّن المجتمعات من تجاوز ماضيها الأليم وبناء مستقبل أكثر عدالة وإنسانية وديمقراطية.

في الملف السوري من الضروري أولاً تحديد طبيعة الجرائم الحقوقية التي ارتكبها النظام السابق في سوريا، وكذلك طبيعة الفاعلين السياسيين والحقوقيين والمدنيين الجدد، ومدى إيمانهم ورغبتهم في تأسيس تجربة حقيقية للمصالحة على أساس منهجية العدالة الانتقالية؛ أي مصالحة بأفق دمقرطة الدولة ودمقرطة المجتمع.

يجب تحديد الفترة الزمنية المعنية بالتحليل بدقة، نظريًا العدالة الانتقالية تعني بالفترة  التي لا يزال أثرها  السياسي و الحقوقي  والاجتماعي والاقتصادي والنفسي قائمًا بعمق على الوضع الراهن.

لذا، فإن الفترة التي ينبغي أن تكون موضع تحليل في السياق السوري، هي فترة حكم حافظ الأسد وابنه بشار الأسد، وهي فترة تجمع جلّ المنظمات الحقوقية على أنها كانت فترة  بشعة من الناحية الحقوقية، والاجتماعية والإنسانية، وأن الانتهاكات خلالها كانت ممنهجة ومستمرة، وتمثل سياسة الدولة.

ارتكب نظام الأسدين (الأب والابن) انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ضد الشعب السوري على مدى عقود، بدءًا من مجزرة حماة سنة 1982، وصولًا إلى الحرب المستمرة منذ سنة 2011، مروراً بأحداث القامشلي في العام 2004.

ومن بين القمع السياسي والمجازر الجماعية في عهد الأسدين مجزرة تدمر 1980 إعدام حوالي 1000 معتقل سياسي داخل سجن تدمر، ومجزرة حماة 1982 قتل حوالي 20000- 40000 ألف شخص. فضلاً عن السجون السرية مثل تدمر وصيدنايا وعدرا حيث تحولت إلى أماكن تعذيب وقتل بطيء، والاختفاء القسري.

هذه الجرائم الخطيرة غير قابلة للتقادم، ومن المؤكد أن لجنة الإنصاف والمصالحة، في حال قيامها، ستكشف عن جرائم أخرى ارتُكبت في الظلام الدامس.

معالجة الانتهاكات

معالجة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، تتطلب الكشف عن حقيقة هذه الانتهاكات وعملية الكشف عن حقيقة الانتهاكات تمر عبر إنشاء هيئة وطنية للحقيقة والمساءلة لتوثيق الانتهاكات. ومفهوم الحقيقة في العدالة الانتقالية يختلف عن مفهوم الحقيقة في التاريخ، فالحقيقة في هذا السياق تعني محاولة الإجابة عن أسئلة من أمر بتنفيذ الجريمة، من نفذها؟ ومن استفاد منها؟

التحديد الدقيق للفترة الزمنية المعنية بالمعالجة هو أمر بالغ الأهمية من أجل ضمان نجاعة عمل هيئة المصالحة، ذلك أن دورها هو الإسهام في رسم الطريق نحو دولة الحق والديمقراطية، عبر الإقرار والاعتراف الرسمي بما حدث من انتهاكات خلال تلك الفترة، وليس كتابة تاريخ سوريا.

وفيما يتعلق بالإصلاح المؤسسي وضمانات عدم التكرار من الضروري التمييز بين مصالحة جرت في ظل استمرار نفس النظام السياسي، ومصالحة تجري في ظل النظام الجديد عقب الثورة، لذا يجب الانتباه الشديد إلى التوازنات القائمة والحرص الشديد عليها لأن العملية أشبه بالسير على بيض النمل.

ويجب أن تدعو هيئة التحقيق إلى تفكيك الأجهزة الأمنية السابقة (المخابرات، الفروع الأمنية، الشرطة العسكرية)،  إصلاح القضاء لضمان استقلاليته ومنع استخدامه كأداة قمعية،  تطهير الجيش والأجهزة الأمنية من المتورطين في الانتهاكات واستبدالهم بقيادات مهنية وغير طائفية،  إصلاح المناهج التعليمية والإعلام لتوعية المجتمع حول حقوق الإنسان ومنع إعادة إنتاج الفكر الاستبدادي.

المصالحة الوطنية وبناء السلام ضرورة عبر إطلاق حوار وطني شامل يجمع كل المكونات السورية من أجل بناء عقد اجتماعي جديد، دعم برامج المصالحة المجتمعية بين الفئات المتضررة لإعادة بناء الثقة المجتمعية، تعزيز ثقافة حقوق الإنسان والمواطنة المتساوية كسبيل لمنع تكرار الحروب الأهلية والطائفية مستقبلاً.

تصنيف المسؤوليات

تصنيف المسؤوليات عن انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا مسألة معقدة بسبب تعدد الفاعلين والانتهاكات التي ارتكبتها مختلف الأطراف ولاسيما منذ اندلاع النزاع في 2011.

ويعتبر النظام السابق الطرف الأساسي المسؤول عن انتهاكات واسعة وفق تقارير منظمات حقوقية دولية (الأمم المتحدة، هيومن رايتس ووتش، العفو الدولية).

وكان للقوى الدولية والإقليمية نصيب من الانتهاكات في سوريا مثل روسا بالدعم العسكري للنظام السابق واستهداف المشافي والمداس، وإيران وميليشيات تابعة لها مثل حزب الله أثناء مشاركته في المعارك والانتهاكات بحق المدنيين، وتركيا التي دعمت فصائل معارضة مسلحة ارتكبت انتهاكات بالتهجير القسري للسكان من منطقة عفرين، والتحالف الدولي بقيادة ولايات المتحدة الأمريكية مسؤولية  ضربات جوية أدت إلى مقتل مدنيين كما في الرقة ودير الزور.

عملية التوثيق يجب أن تكون وفق المعايير الدولية بالاعتماد على معايير القانون الدولي (اتفاقيات جنيف، نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية)، وتصنيف الجرائم وفق طبيعتها جرائم حرب، أو جرائم ضد الإنسانية، أو جرائم الإرهاب. 

يجب أن يكون هناك إشراف دولي لضمان الشفافية بدعم من الأمم المتحددة ومنظمات حقوقية، من أجل حماية الشهود عبر آليات قانونية توفر لهم الأمان، ومحاسبة الجناة، لأن توثيق الانتهاكات في إطار لجنة الحقيقة والإنصاف والمصالحة في سوريا يتطلب منهجية شاملة تشمل جمع الأدلة، التحقيق القانوني، ضمان الحياد، وتحديد آليات العدالة الانتقالية.