لا يزال الإعلام الدولي والإقليمي يحاول مجاراة التغييرات الكبيرة الطارئة على الملف السوري. التغييرات التي شملت سقوط نظام الأسد بهذه الطريقة المتسارعة التي شكلت مفاجأة لأكثر العارفين بهذا الملف. التغير الذي لم يكن تداعياته تحوم في الخارطة السورية فقط بل تمتد لما بعده بكثير. سوريا التي اختبرت خلال أربعة عشرة سنة الكثير من الاضطرابات والدماء، وبعض الفترات من الهدوء الهش، كانت على ما يبدو تشق طريقها في مسار إبقاء الأسد في الحكم وإنهاء ملف المعارضة المسلحة وإفشال مشروع الإدارة الذاتية في سوريا. وهذا الإبقاء كان يدير محاولاته الروس والإيرانيون. وبالأخير بعض المحاولات الخليجية الخجولة.
لكن، مع هول الحرب في غزة، ودخولها للبنان، وانخراط الإيرانيين والحوثيين وجماعات الفصائل الشيعية في العراق بها، بدأت معادلة الإبقاء غير مُجدية. وأصبح من اللزام إنهاء ملف الربط والتواصل بين الجماعات التي تسمى بمحور المقاومة من لبنان إلى طهران. وكان التركيز بذلك على سوريا التي تشكل عقدة الربط تلك، والتي كان ضعفها المتصاعد يشكل قوة لنظام طهران الذي كان يتغلغل أكثر في دمشق. رغم الضربات الإسرائيلية المستمرة على مراكز ذلك التغلغل. هذا في خضم انشغال روسي طويل في حربها في أوكرانيا.
السقوط المدوي لنظام الأسد وانهيار الجيش بتلك الطريقة كانت بالأكثر ضربة موجعة للإيرانيين الذين حُجّمت جماعاتها في المنطقة مع تركيز الهجوم الإسرائيلي عليهم. لذا، سببت تلك الهزة إضعاف واضح لموقف إيران التي تترقب ما ينتظرها بوصول ترامب من ويلات بقلق.
الإيرانيون بدورهم لم يكونوا كما تظهر التفاصيل على علم بما حدث في سوريا. لذا، لم يكن لهم أي قدرة على التدخل وإنقاذ حليفهم، واستسلموا للواقع هناك. الاستسلام الذي جعلهم يتخبطون بالسفر بين العواصم الحليفة لها في محاولة للحصول على الإجابات وفهم كيفية التعامل في المستقبل. لكن، دون جدوى. السلوك الإيراني المتوقع في قادم الأيام سيكون سلوك مرتبط بمحاولة لملمة الهزيمة النكراء، ودفع الخطر عن حدودها، وتأمين عدم هزيمة الفصائل الشيعية التابعة لها في العراق، والتي بدأت تشعر بدورها بمدى جدية الخطر عليها. وهذا السلوك قد يشمل محاولة زرع الكثير من الفوضى داخل سوريا نفسها. الفوضى التي تشكل حدود الإدارة الذاتية الممتدة على طول الحدود العراقية هدف لها. الاصرار على الخروقات في المنطقة الممتدة على جانبي نهر الفرات في المدخل العراقي سيكون مصدر خطر ممكن للأطراف العاملة هناك سواء من الوحدات التابعة لدمشق أو قسد.
وبالتالي سيكون التعاون بين الطرفين والتصدي المشترك لأي محاولة زرع الفوضى من خلال خلايا قد تتلبس أكثر من لباس هي العنوان الأبرز والوسيلة الأنسب في هكذا مسار. هذا النمط من التعاون قد يشكل أرضية لبناء تفاهمات وتعاون مع الطرفين أيضاً لحل الملفات العالقة بينهما منذ أكثر من شهر، والتي ينتظر الناس ورود الأنباء الإيجابية عنها. الملفات التي تشمل شكل الحكم والدستور والنظام السياسي القائم والعلاقة العسكرية ومصير قسد والتهديدات التركية على المنطقة.
هذا السلوك الإيراني المفترض الذي قد يمتد من الحدود العراقية إلى ضفاف البحر المتوسط يحتاج إلى انضباط أميركي حقيقي لموازنة المخاطر وعدم السماح لظهور فوضى جديدة قد تخلق الأجواء للجماعات الإرهابية الخاملة أو الضعيفة للظهور مجدداً. وبالتالي، هزيمة جديدة لمشروع التحالف الدولي ضد الإرهاب.
سيكون الفشل الأميركي في سوريا عند تركها كمكان للتصفيات الإقليمية ذو صدى واسع بين الأطراف الحليفة لها في الشرق الأوسط. أي بداية سياسية غير موفقة لحكومة ترامب في واحدة من أعقد الملفات السياسية في الشرق الأوسط كالملف السوري. لا يجب أن تختار واشنطن الحياد أو التواصل التكتيكي بين قادة القامشلي ودمشق بل عليها الكثير من المسؤولية للوصول إلى حل وسطي يحفظ مصالح الأطراف ويؤمن البلاد من عدم الانجراف نحو صراعات جديدة لا تفيد سوى أعداء واشنطن. وبالأخص إيران وروسيا التي وإن يبدو أنها لازالت تحتفظ بقواعدها بسوريا لكنها تعاني الشعور بالوحدة في هذا الملف وتشعر بالاحراج الذي سببه هزيمة نظام البعث في دمشق بعد سنوات من الدعم الروسي المباشر له. الضمانة الأكيدة هو التصدي الأميركي لمحاولة إفشال الحوارات ولمحاولات إقليمية تمتد من أنقرة لطهران هدفها إضعاف شريكة واشنطن “قسد”. عليه، إفشال مشروع الاستقرار المفترض في سوريا.
إن التربص الإقليمي بسوريا، وخاصة القادم من طهران، لا يمكن تجاهله. الخبرة الإيرانية في التغلغل بالدول، وتشكيل الكتل العسكرية وإيصال الدعم لهم، وقدرة إيران الطويلة في حشد الجماهير عقائدياً، يجعل من الساحة السورية ساحة سهلة المنال بالنسبة لها. إيران التي لها خبرة ودراية طويلة في الملف السوري، ولها منافذ للداخل السوري، قد تحتاج إلى حدوث فوضى ما في الساحة العامة لتظهر وجودها من جديد هناك. لذا، فإن أجمل ما قد تشعر به إيران هو حدوث فشل في المفاوضات بين القامشلي ودمشق. كذلك توفر الهجمات التي تشنها تركيا ومن خلال طائراتها وفصائل ما يسمى الجيش الوطني على قسد الكثير من التساؤلات عن مجانية الخدمات التي تقدمها تلك الفصائل لإيران من خلال زيادة مخزون الكراهية بين الأطراف العسكرية في سوريا. وبالتالي زيادة احتماليات الحروب الثانوية أو الداخلية. وهنا يظهر كيف أن لواشنطن المسؤولية عن ضبط هذا الإيقاع وسد هذه المنافذ من خلال الضغوط الممكنة على تركيا وعلى الفصائل المهاجمة لتسهيل الطريق لحوار بناء بين دمشق والقامشلي. الحوار الذي قد يكون بنتائجه المنشودة واحدة من السدود المنيعة في وجه محاولات عودة الأطراف الراغبة بنشر الفوضى في سوريا على حساب مصالح السوريين نفسهم. ويؤمن في حال قررت حكومة ترامب الانسحاب من سوريا مصالح واشنطن ومصالح حلفائها هناك دون السماح بحدوث تكرار فج للانسحاب الأميركي الفوضوي من أفغانستان في فترة حكم بايدن.