تأثير الحرب في غزة على دول الجوار

أثرت الحرب التي ما تزال مستمرة في قطاع غزة – بشكلٍ متفاوت- على دول الجوار؛ وتحديداً في الأردن وسوريا ولبنان. وما زال طيف الأزمات التي خلقتها الحرب وتداعياتها المستمرة يتوسع يومياً ملقياً بظلالٍ شاحبة على كافة أطراف الصراع القريب المجاور، والبعيد عن أماكن تقاطع النيران والشظايا المتطايرة. ولقد ساعدت سيرورة العولمة بآلياتها التكنولوجية والسياسية والاجتماعية بجعل هذه الحرب شأناً عالمياً يتخطى الحدود الدولية ويؤثر على سياساتها الخارجية والداخلية. 

وإذا كان يصعُب على المحلل السياسي المشغول بقضايا السياسية العالمية المعاصرة أن يجد فائدة واحدة من هذه الحرب المجنونة، فإنه من السهل – حتى على المواطن العادي – في أي بقعة في العالم أن يرى بأن هذه الحرب عبثية، وسلسلة من المشاهد السوريالية العنيفة التي حوّلت عالمنا المعاصر الى مجرد “فرانكشتاين” على مستوى كوكبي لا يبالي بالقيم والأخلاق والمواثيق التي صنعها البشر على مدى تاريخ التطور البشري.

إن إسرائيل كطرفٍ دولي رئيس في حرب غزة هي من أفضل الأمثلة على الفرانكشتاين الكوكبي فهي صنيعة خللٍ عميق في البِنية والتأسيس. وتاريخها المعاصر؛ باعترافِ مؤسسيها في أدبياتهم التاريخية والثقافية، دولة يحركها الخوف من المجهول وعدم الاطمئنان. ولذلك فإن السياسية الإسرائيلية (الداخلية والخارجية) يحركها، ويدفعها الخوف، والخوف فقط. ولهذا السبب تعيش دولة إسرائيل ضمن سياسية “الجدار الحديدي” و”عقلية القلعة”.

ومن المتفق عليه على مستوى عالمي بأن الحرب في غزة أدت الى خسارة إسرائيل الكثير من رصيدها الأخلاقي على المستوى الغربي تحديداً، والعالمي. فلا يكفي أن تكون الدولة ديمقراطية، أو تدّعي الديمقراطية، وحماية حقوق الإنسان، وفي نفس الوقت متوحشة ضد الآخرين. وفي النهاية فإن حربها في غزة أثرت سلباً على الأمن العالمي، وساهمت بجعل العالم كله أقل أمناً، خاصة جيرنها العرب في الأردن وسوريا ولبنان.    

إن سوريا التي مزقتها سنوات الحرب الأهلية، والحروب بالوكالة، وتدخلات الأطراف السياسية الفاعلة، وارتفاع معدل البؤس، حيث تحتل المرتبة الرابعة على “مؤشر هانكي للبؤس العالمي” لعام 2023، والفوضى السياسية العامة ومن زيادة حصيلة الاختراقات الإسرائيلية لسيادتها بشكل متكرر الأمر الذي فاقم من أزمة هشاشتها السياسية بحجة ضرب مواقع الحرس الثوري الإيراني ومليشيات حزب الله.

 وبالإضافة إلى إيران؛ استغلت تركيا هذه الفوضى التي ساهمت بها الحرب في غزة وشنت سلسلة من الضربات ضد الكرد في شمال شرق سوريا، مستهدفة عشرات محطات النفط والكهرباء تحت سيطرة الإدارة الذاتية الكردية. واستمر تنظيم داعش بشن هجماته في جميع أنحاء البلاد خاصة ضد قوات سوريا الديمقراطية (قسد)  في نفس الوقت الذي تتحدث التقارير الإعلامية العالمية عن قيام النظام بتصعيد حاد للعنف أجبر عشرات الآلاف من الأشخاص على الفرار، فيما لا تزال تشكل أكبر أزمة نزوح في العالم، وهو أمر لا يرصدّه أحد خارج المنطقة لأن الكل الآن مشغول بالحرب في غزة والمفاوضات لوقف إطلاق النار ووصول المساعدات الإنسانية إلى جياع غزة الذين مزقتهم الحرب.

والحقيقة أن الوضع في لبنان لا يختلف كثيراً عن سوريا من حيث انسداد الأفق السياسي وارتفاع معدل البؤس يحتل المرتبة الثالثة بين الدول الأكثر بؤساً في العالم، والأولى عربياً، بحسب “مؤشر هانكي للبؤس العالمي” لعام 2023. فالدولة والمواطن أصبحا مرهونين لحالة الخوف من اجتياح إسرائيل للجنوب اللبناني، والخوف من الحرب الأهلية. وحزب الله يتفنن في اللعب على أوتار حالة الخوف العامة هذه، مدّعياً حماية سيادة لبنان، ومقاومة إسرائيل دعماً لأهل غزة. فلا وقت الآن للحديث عن إصلاح سياسي أو اقتصادي أو الحوكمة الرشيدة، ولا حديث عن محاسبة فاسدين، لأنه وقت مقاومة إسرائيل ودعم غزة. وبالطبع فإن حزب الله هو فقط القادر على ذلك! ولذلك يمكن القول بأنه إذا كان هناك من رابحين من الحرب في غزة -حتى الآن على الأقل – فهو حزب الله والنظام الذي يدعمه في إيران.

ولا يختلف الوضع في الأردن عن الوضع في سوريا ولبنان إلا بالأوزان النسبية لمستوى الأثر الذي خلفته الحرب في غزة. وربما يكون الخطر الذي يتهدد الأردن أكبر بكثير من الخطر الذي يتهدد سوريا ولبنان خاصة إذا استمرت الحرب وتوسعت الى الضفة الغربية من الأراضي الفلسطينية المحتلة.

إنّ الخطر على الأردن على مستويين: داخلي، يتمثل بواقع الوضع الديمغرافي في الأردن بوجود نسبة كبيرة من المواطنين الأردنيين من أصول فلسطينية، يضغطون بشكل مستمر على الدولة وصانع القرار السياسي لاتخاذ مواقف متشددة، ومتطرفة أحياناً ضد إسرائيل رغم أنه مرتبط معها معاهدة سلام منذ ثلاثة عقود (27-أكتوبر 1994). واليوم تخرج المظاهرات الجماهيرية والمعارضة السياسية وعلى رأسها الحركة الإسلامية منذ بداية الحرب في غزة كل يوم جمعة وسط العاصمة عمّان تطالب بإلغاء هذه المعاهدة. لا بل المطالبة بفتح الحدود لمحاربة إسرائيل. وهو أمر تنظر له مؤسسات الدولة على أنه دعوى غير واقعية تهدف لنشر الفوضى والاضطراب السياسي والبحث عن مكاسب سياسية شعبويّة للمعارضة السياسية خاصة جماعة الأخوان المسلمين التي تؤيد حركة حماس. ولذلك فإن الدولة تتعامل مع هذا الملف بمنتهى ضبط النفس والحكمة السياسية. 

أما الخطر الخارجي؛ فيتجلى بتهديد اليمين الاسرائيلي المتطرف الذي لم يتوقف عن القول بـ”الوطن البديل” وطرد الفلسطينيين بالقوة الى الأردن. الأمر الذي سيكون كارثياً على بنية النظام والدولة والأمن الوطني. ولذلك تنظر القيادة الأردنية بكثير من الجدّية، والحساسية والتوتر إلى خطورة هذا السيناريو.     

 في الخلاصة؛ يمكن القول بأنه رغم أن دول بلاد الشام الثلاث (الأردن، سوريا، لبنان) هي من أكثر المتضررين من الحرب في غزة وتداعياتها المستقبلية؛ فإن مساهمتها في ترتيبات ما بعد انتهاء الحرب تبدو قليلة، أو مقيّدة. فهي أطراف فاعلة تشارك في الخسائر من دماء أبنائها لكنها ستكون محرومة من المشاركة في الأرباح.