إنه لحدث مهم، بالمعنى السياسي، أن تنظر محكمة العدل الدولية بالدعوى المرفوعة أمامها من دولة جنوب إفريقيا ضد إسرائيل بسبب ما أسمته عملية “الإبادة الجماعية” التي يتعرض لها سكان غزة من قبل القوات الإسرائيلية. تأتي الأهمية السياسية من كون إسرائيل، الدولة “المدللة” عالمياً، والمتمردة على الشرعية الدولية، تُجر من يدها هذه المرة للمثول أمام القضاء الدولي ممثلاً بمحكمة العدل الدولية للدفاع عن نفسها ضد التهم الموجهة لها من دولة جنوب إفريقيا.
بالطبع كان بإمكان إسرائيل الامتناع عن المثول أمام المحكمة. لكنها في هذه الحالة كانت سوف تتعرض لأضرار سياسية وأدبية أكبر بكثير. كان لغيابها أن يثبت مباشرة التهم الموجه لها، في حين تستطيع من خلال مثولها أمام قضاة المحكمة أن تدافع عن نفسها، مستندة إلى مبدأ “حق الدفاع عن النفس” الذي هو أحد مبادئ الشرعة الدولية، خصوصا وأن حماس كانت البادئة بالهجوم عليها في السابع من أكتوبر لعام 2023.
السؤال لماذا تقدمت دولة جنوب أفريقيا بالدعوى، وليس أي دولة عربية أو إسلامية؟ في الواقع من حسن حظ الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة أن تقدمت بها دولة جنوب أفريقيا، وليس أي دولة من الدول العربية أو الإسلامية، فهذه الأخيرة يسهل الطعن بمصداقيتها، ويؤيد أغلبها، سواء في العلن أم في السر، إسرائيل. أما جنوب إفريقيا فهي تحظى بمصداقية عالية نظراً لإرثها التاريخي في النضال ضد الظلم، وفي تقديمها مثلاً غير مسبوق في التسامح. أضف إلى ذلك فهي دولة ليست طرفاً مباشراً في الصراع، بل كانت تحتفظ بعلاقات جيدة مع طرفيه إسرائيل والفلسطينيين. ويبدو لي أن جنوب إفريقيا عندما رفضت انضمام بعض الدول العربية إلى جانبها كطرف إدعاء كانت تدرك أن قبولها بذلك سوف يضعف القضية على الأقل من الناحية الإجرائية، ويخدم إسرائيل.
لقد استندت جنوب إفريقيا في دعواها ضدّ إسرائيل إلى اتفاقية الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعية، المصادق عليها سنة 1948. بموجب هذه الاتفاقية يحق للمحكمة مساءَلة الدّول عن سياساتها وتصرّفات هيئاتها الاعتبارية أو موظفيها عمّا يمكن أن يمثّل انتهاكاً لالتزاماتها الدولية المنصوص عليها في هذه المعاهدة. تنصّ المادة التاسعة من الاتفاقية والتي استندت عليها جنوب إفريقيا في دعواها، على أنه: ” يُعرض على محكمة العدل الدولية، بناءً على طلب أيّ من الأطراف المتنازعة، النزاعاتُ التي تنشأ بين الأطراف المتعاقدة بشأن تفسير أو تطبيق أو تنفيذ هذه الاتفاقية، بما في ذلك النزاعات المتصلة بمسؤولية دولة ما عن إبادةٍ جماعية أو عن أي من الأفعال الأخرى المذكورة في المادة الثالثة”.
يكاد يتفق جميع الملاحظين لمجريات المحكمة في جلستي تقديم الادعاء والدفوع في 11 و12 من شهر كانون الثاني/يناير لعام 2024 أن إسرائيل في ورطة قضائية حقيقية تسبب بها قادتها بالدرجة الأولى من خلال تصريحاتهم التي استند إليها الادعاء لإثبات وجود النية للإبادة الجماعية التي تشكل الركن الأول لجواز نظر المحكمة بالدعوى، أما الركن الثاني فتمثله الوقائع الملموسة على الأرض وهي أكثر من أن تحصى. فمنذ اليوم الأول لتفجر الصراع وصف وزير الدفاع الإسرائيلي الفلسطينيين بأنهم “حيوانات بشرية ينبغي إبادتهم”، وأمر بقطع “الماء والغذاء والكهرباء عنهم”. ليضيف أحد زملائه في الحكومة بإمكانية استخدام “السلاح النووي لمحو غزة من الوجود”، لينضم إليهم أحد أعضاء الكنيست بالمطالبة بـ”حرق الفلسطينيين”، وبالطبع لم يتأخر عنهم رئيسهم بنيامين نتنياهو في الكثير من تصريحاته النارية التي تفيد المعنى ذاته.
وإذا كانت عملية اثبات وقائع الإبادة الجماعية للفلسطينيين من قبل الجيش الإسرائيلي وتوصيفها القانوني، وكذلك إثبات وجود النية لارتكاب هذه الأفعال الجرمية، قد شكلت الجزء الأهم في المرافعات التي استمرت ليومين (11و12 كانون الثاني) فإن مطالبة الجهة المدعية للمحكمة باتخاذ “تدابير احترازية مؤقتة” قد أثارت جدلاً قانونياً مهماً حول مدى وجود حقوق ذات أولوية لفرض هكذا تدابير، وهذا ما كانت تخشاه إسرائيل. فهي لا تريد أن تصدر المحكمة أمراً تنفيذياً بإيقاف الحرب ريثما تنظر في أصل الدعوى وتصدر الحكم الذي تراه مناسباً.
ولم تتأخر المحكمة كثيراً لتصدر قرارها بشأن التدابير الاحترازية مثار الجدل، وهذا بحد ذاته كان لافتاً لكثير من الملاحظين السياسيين والإعلاميين. وعلى ما يفهم من نص القرار فهي لم تطلب وقف الحرب بكلام صريح مما أراح نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل، لكن جميع التدابير الاحترازية التي طالبت بها المحكمة لا يمكن تحقيقها إلا في ظل وقف شامل للحرب. فكيف مثلاً يمكن تجنّب جميع الأعمال المشمولة في المادة الثانية المتعلقة بجريمة الإبادة الجماعية من قبيل منع التسبب بأضرار جسدية أو عقلية للمدنيين، أو خلق ظروف تؤدي إلى وفيات جماعية وغيرها وهي جرائم تحصل يومياً في غزة. وطالبت المحكمة أيضاً بأن على إسرائيل التأكد من أن جيشها لا يرتكب أعمالاً تؤدي إلى حصول جريمة الإبادة الجماعية، وأن تمتنع عن التحريض عليها وهذا ما أزعج كثيراً المسؤولين الإسرائيليين.
لقد حظي القرار بتأييد الفلسطينيين رغم عدم نصه صراحة على وقف الحرب، كما لقي صدىً إيجابياً لدى حكومة جنوب أفريقيا صاحبة الدعوة، ولدى العديد من الحكومات العربية والإسلامية، والرأي العام العالمي المناصر للقضية الفلسطينية.
بالطبع لن تلتزم إسرائيل بالقرار كعادتها في رفض كل القرارات الدولية المتعلقة بالقضية الفلسطينية، مع ذلك فقد أبدت دول عديدة مؤيدة لإسرائيل استعدادها للالتزام به، والامتناع عن تقديم الدعم لإسرائيل وهذا بحد ذاته سابقة مهمة في تاريخ القضاء الدولي، وفي تاريخ القضية الفلسطينية.