“إستراتيجية” أردوغان الجديدة تجاه القضية الفلسطينية

يتساءل الباحث في الشؤون التركية سمير العركي في مقالة نشرها على موقع الجزيرة بتاريخ 29 تشرين الأول/أكتوبر 2023 هل الرئيس التركي أردوغان بصدد تدشين إستراتيجية جدية في التعاطي مع إسرائيل بخصوص القضية الفلسطينية؟ هذا ما أوحاه له خطاب أردوغان أمام قرابة مليون ونصف من الأتراك في تجمع جماهيري لنصرة فلسطين في إسطنبول. في الواقع كان أردوغان بحاجة لهذا الحشد الجماهيري الكبير الذي تم الإعداد له من قبل حزبه وحلفائه ليس لتدشين استراتيجية جديدة في التعاطي مع إسرائيل، بل للقول إن الانتقادات التي وجّهت له نتيجة الالتباس في سياساته بعد اندلاع حرب غزة ليست في محلها، وأن مواقفه الانتهازية السابقة من القضية الفلسطينية لا تزال مستمرة.

 كان لافتاً أن تبدو المواقف التركية خلال الأيام الأولى لطوفان الأقصى أقرب إلى الحياد، بل عدّها البعض منحازة لإسرائيل، خصوصاً عندما شجب الرئيس أردوغان ووزير خارجيته فيدان استهداف حماس “للمدنيين”، وطالب بـ ” إطلاق سراح الرهائن (وليس الأسرى!) فوراً وبدون شروط”. هذا هو تفسير بعض الإعلاميين المختصين بالشأن التركي. لكن الوقائع تبين أن سياسات أردوغان لا تحكمها مبادئ، بل يغلب عليها الطابع الانتهازي فتتقلب بحسب تقلب قراءاته السياسية الشخصية.

يفهم أردوغان وطاقمه السياسي أنه من الصعب تجاوز القضية الفلسطينية، وهو يسعى للمنافسة على المجال الحيوي العربي مع إيران وإسرائيل، فهي جواز مرور لا غنى عنه إلى الجمهور العربي. استفاد أردوغان من خدمات حركة المقاومة الإسلامية (حماس) والجهاد الإسلامي، دون أن يقطع مع السلطة الفلسطينية. لقد كان أردوغان بحاجة لهذه الورقة ليس لذاتها، بل لاستخدامها في ابتزاز المستوى السياسي العربي الرسمي المعادي في غالبيته للإسلام السياسي، ومنه حركة حماس والجهاد الإسلامي المصنفتان من أغلب دول الخليج كحركتين إرهابيتين.

في خطاب أردوغان أمام الحشد الجماهيري في إستنبول بدا أكثر تطرفاً من أغلب مواقفه السابقة، فهو لم يكتفِ باعتبار حركة حماس “حركة تحرر وطني”، وأن مقاومتها لإسرائيل “مشروعة”، بل ذهب أبعد من ذلك إذ عد إسرائيل “دولة مجرمة”، وأنها ليست سوى “بيدق في المنطقة”، وأن بلاده بدأت تتخذ الإجراءات لمساءلتها قانونياً. ولم يغب بطبيعة الحال عن أردوغان إن المناسبة ملائمة لاتهام الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي بالمسؤولية عن العدوان الإسرائيلي على غزة، بتأمينها الغطاء السياسي والدبلوماسي والدعم العسكري له، كنوع من رد الفعل على دعمهم للكرد السوريين. وفي شد لعضلاته السياسية لوح بالتدخل العسكري لإيقاف عدوان إسرائيل على غزة، باستخدامه لعبارة ” قد نأتي ذات ليلة على حين غرة” الموحية، التي استخدمها قبيل تدخل قواته في ليبيا، وفي أذربيجان، وفي محاربته للكرد في العراق وسوريا.

بدى أردوغان في خطابه المذكور وكأنه يصعّد من سياسيات حزبه السابقة تجاه القضية الفلسطينية، التي كانت بالمجمل داعمة لها، لكن بما لا يعكر صفو علاقات بلاده مع إسرائيل. لقد تجاوز على ما يبدو ما سمي في حينه بالدرس المستخلص من محاولته الفاشلة لفكّ الحصار عن غزة، والذي نتج عنها قطع العلاقات مع إسرائيل، ليعود فيسترضيها ويعيدها بطريقة لا تخلو من الإذعان والإذلال.

والسؤال ما هي حاجة الرئيس التركي لمثل هذا الخطاب المتطرف؟ في الجواب عنه تذهب أغلب التحليلات بداية إلى كون حرب غزة هذه المرة مختلفة عن سابقاتها، ليس فقط لأن الطرف الفلسطيني هو الطرف الرئيس فيها في مواجهة اسرائيل، بل لأن تداعياتها سوف تطاول دول الإقليم، ولن تكون تركيا بمعزل عنها. 

 وثانياً؛ جاء الخطاب بعد استمزاج واسع لمواقف دول الإقليم لتقدير موقف مشترك يتلخص بضرورة تحويل الأزمة الراهنة إلى فرصة لإيجاد حل نهائي للقضية الفلسطينية وفق مبدأ حل الدولتين المتفق عليه عالمياً.

وثالثاً؛ كان أردوغان بحاجة لهذا الحشد الجماهيري الكبير في إستنبول ليس فقط لمجاراة ما جرى في كثير من دول العالم، بل ليشكل رأسمالاً رمزياً مناسباً لقوة خطابه ومنحه مزيداً من المصداقية.

ورابعاً؛ ورغم المواقف المتطرفة في خطاب أردوغان ضد إسرائيل فهو لم يقطع معها، بل زادت صادراته إليها خصوصاً من المواد الغذائية. ولم يكتفِ بذلك بل عرض أن تكون بلاده ضامنة لأي اتفاق تسوية للقضية الفلسطينية سواء منفردة أم ضمن مجموعة من الدول.

ما يخشاه أردوغان، بحسب العديد من الملاحظين الإعلامين والسياسيين، هو هزيمة حماس وغيرها من فصائل المقاومة الفلسطينية، مما قد يقضي على أية فرصة للسلام. وهو مرتاب كثيراً من سرعة الانتشار الواسع للقوات الأميركية والغربية عموماً في شرق المتوسط، وما تقدمه من دعم لإسرائيل. مع ذلك، فهو يراهن، مثل كثيرين، على التحركات الجماهيرية الواسعة في مختلف دول العالم رفضاً لاستمرا الحرب على غزة ودعماً للقضية الفلسطينية. ويرى أنه لا مفرّ أمام الرئيس الأميركي في نهاية المطاف من السعي لتنفيذ ما أعلنه من ضرورة إعادة ترتيب المنطقة ضمن إطار أوسع تقوده أميركا لغلق أبوابها في وجه الصين وروسيا. وفي هذا الاتجاه يرى أردوغان أن عدم السماح بسقوط غزة، والقضاء على حماس والجهاد الإسلامي سوف يكون في صالح تركيا عندما يتم إعادة النظر في الهندسة السياسية الجيواستراتيجية للمنطقة برمتها.