الخطأ المقصود.. جهات حكومية تخفي وقائع حالات انتحار في الساحل السوري

تحقيق: حازم مصطفى

حين وصلت “ندى” ( 28 عاماً) إلى حقل الزيتون خاصّتهم في أرض “الحمرا” (ريف الدالية، منطقة جبلة) لاهثةً، هرول خالها إليها، واحتضنها باكياً مخبراً إيّاها أنّ الصوت الذي سمعته القرية كان لقنبلة يدوية أودت بحياة أبيها، وأن أهل القرية جمعوا ما بقي من الجثة في مكان واحد، وقد وجدوا هوية والدها وبطاقات أخرى في المعطف العسكري الممزق.

لم تصدّق “ندى” وإخوتها الحاضرين أنّ تلك الأشلاء المتناثرة هي والدهم “عيسى أبو علي”. كما لم تصدق القرية البعيدة عن أجواء الحرب السورية أنّ يصل انفجار القنابل إليها. صحيح أنّ الحرب شهدت تفجير مئات القنابل وتناثر آلاف البشر شظايا، لكن واحداً منها لم يحدث قبلاً في القرية التي استقبلت جثامين عشرات العساكر الذين قضوا في الحرب، دون الكشف عن وجه واحد منها بتعليمات واضحة!

وقفت الصبية وأخواتها وإخوتها وخالها ومعهم الناس المصعوقين بالحادثة، في انتظار وصول الشرطة والطبابة الشرعية منتصف نهار 24 أيار/مايو الماضي، يتساءلون عما حدث هنا في اللحظات الأخيرة من حياة “أبي علي” البالغ سبعة وستين عاماً قضى منها عقوداً في سلك المخابرات.

ومع حضور “الجهات المسؤولة”، حققوا مع الناس وسألوا الأولاد عن سلوك أبيهم في الأيام الأخيرة فأجابوهم أنه كان طبيعياً، ودعموا قولهم برأي شهود آخرين، وسألوا عن مصدر القنبلة، فأجاب الجميع إجابة موحّدة: لقد وجدها في حقل الزيتون!

بعد ساعات من التحقيق، غادرت الشرطة والطبابة مع جثة الوالد إلى المشفى الوطني في جبلة، وبعد يوم واحد أعطت الطبابة الشرعية إذناً بدفن الجثة التي عادت في مشوارها الأخير إلى القرية الجبلية ترافقها سيارات كثيرة حيث حظي “أبو علي” بجنازة مهيبة فهو من شخصيات القرية المحبوبة وشيعّه أهلها مع كثير من الهمس والشائعات أنّ الرجل “انتحر” خلافاً لما تقول عائلته إنّ وفاته كانت “قضاءً وقدر”.

“إنّ الضغوط الاقتصادية والمالية زادت على أبي في الفترة الأخيرة، ولكنه كان رجلاً مؤمناً، بالنسبة لي يستحيل أن يُقدم على قتل نفسه!”

تقرير الطبابة الشرعية الذي يوقع عليه الطبيب الشرعي وقسم الإسعاف، أشار إلى وفاة ناتجة عن تهتكات جسدية بفعل انفجار قنبلة أدّت إلى نزيف داخلي حاد، ورفع التقرير إلى القضاء، ومعه محضر الشرطة المدنية، إضافة إلى حضور الشهود والأهل، وبعد نقاشات أمام القضاء، سجّلت الوفاة “خطأ غير مقصود” بحضور الأهل والشهود الذين أكدوا عدم وجود أعداء لأبي علي.

لم تكن واقعة “موت” أبو علي، الوحيدة في الساحل السوري منذ مطلع العام الحالي التي حدثت بانفجار قنبلة وسجّلت في السجلات الرسمية “خطأ غير مقصود”، ففي 23 أيار/ مايو الماضي، قتل شاب (34 عاماً) آخر في منطقة الدعتور (أطراف اللاذقية) بانفجار قنبلة بعيداً عن الناس في أرض زراعية وسُجّلت الواقعة “خطأ غير مقصود”، وهذا الشاب عسكري أيضاً ومتزوج ولديه طفلين، وفي حالة ثالثة، أقدم شاب 28 عاماً، على الانتحار، عبر تفجير قنبلة يدوية كانت بحوزته، قرب نهر الشراشير في ريف اللاذقية، نهاية أيار/ مايو الماضي، وفق تقدير أوّلي فإنّ هناك حالات أخرى غير معروفة العدد بدقة سجّلت “خطأ غير مقصود”، ولم يكن ذلك في حوادث القنابل فقط. أثارت هذه الحالات أسئلة حول أسباب تسجيل هذه الوقائع “خطأ غير مقصود” لدى السلطات المعنية، وهل هناك تحايل على القانون تساعد به السلطات الأهل في عدم ظهور هذه الحالات انتحاراً؟ وما أسباب ذلك؟

الفرق بين “خطأ غير مقصود” و”انتحار”:

أشاعت عائلة “أبو علي” أنّ وفاة والدهم “قضاء وقدر، وخطأ غير مقصود” منه، يقول المهندس “علي” ـ الابن الأكبر في حديث معنا ـ إنّ “أباه قضى عمره يخدم الناس ويدبّر أمورهم، وسمعته مثل المسك، ولم يكن مريضاً أو مكتئباً أو متعاطي مخدرات، فكيف نقبل انتحاره؟”ويتابع: “إنّ الضغوط الاقتصادية والمالية زادت على أبي في الفترة الأخيرة، ولكنه كان رجلاً مؤمناً، بالنسبة لي يستحيل أن يُقدم على قتل نفسه!”

إنكار الأهل انتحار أحد أفرادها هي حالة متوقعة في معظم المجتمعات، والمنتحر قد لا يخبر أهله نيته الانتحار وتكون تصرفاته طبيعية، وأحياناً أخرى يترك رسائل أو أدلة على نيته الانتحار، وليس هناك نمط واحد للانتحار، وهذا يدفع الأهل إلى الخطوة التالية وهي اعتبار ونشر وتوثيق الحادثة على أنها خطأ أو إيذاء نفس بغير قصد، يقول “حسّان” (56 عاماً، أحد سكان قرية “أبو علي”) وقد تحدثنا معه عبر منصات التواصل الاجتماعي: إنّ “عائلة أبو علي” سعت منذ حدوث الواقعة إلى تسجيلها خطأ غير مقصود ونفي الانتحار، عبر تزوير ضبط الشرطة باعتباره الوثيقة الأولى، ثم محضر الطب الشرعي، ولهم أسبابهم في ذلك”.

من المؤكد أنه “لكل حدث من تفجير القنابل إلى استخدام السلاح أسبابه، ومن ضمنها أحياناً الخطأ وقلة المعرفة والاستهتار الذي قد يودي بحياة صاحبه، ولا يمكن أن ننسب كل حادثة إلى فعل انتحار”، كما تقول الطبيبة الشرعية “منال” (33 عاماً) من المشفى الوطني (اللاذقية)، مضيفةً أنّ “مهمة الطب الشرعي توصيف الحالة طبياً بدقّة شديدة، تتضمن وصف مسرح الواقعة، والأدوات، ومسافات إطلاق النار إن كانت موجودة، ووضع الجثة والتهتكات والآثار عليها والبصمات على السلاح المستخدم وغير ذلك، وتسجّل رأيها الطبي البحت، أما إصدار حكم بأن الحالة انتحار أو غير ذلك فهي مهمة القضاء، لذلك فإنّ كلمة الانتحار، هي توصيف قانوني وليس طبي شرعي إلا في حالات واضحة وظاهرة جداً”.

تضيف الطبيبة: “الإجابة القطعية بحدوث الانتحار في حالات انفجار القنابل ممكنة، وهي خاضعة لتوصيف الموقع في اللحظات الأولى للانفجار حيث نكشف على موقع الحادثة ونكتب تقريراً مفصّلاً بالتزامن مع تحقيقات الشرطة والجهات الأخرى مع الأفراد ذوي العلاقة بالمتوفى بحثاً عن نوايا جرمية في الحادثة، ومع انتفاء النوايا الجرمية بغياب الأدلة، يبقى التركيز على تقرير الطبابة الشرعية ثم قرار القضاء الذي يعطي بيان وفاة مذكوراً فيه الأسباب التي أدت للوفاة مع توصيف الواقعة (السبب)”.

إنّ عبارة “خطأ غير مقصود” أو “إيذاء النفس بالخطأ” هي “عبارة قضائية تنفي وجود انتحار بمعناه المباشر، ويكون ذلك نتيجة لغياب الدليل الواضح الذي يؤكد وجود الانتحار” تقول الطبيبة: “يتعلق الأمر أولاً بتقييم الطب الشرعي حيث قد ترجّح الصدفة أو الخطأ غير المقصود مثل كون الشخص عند اكتشاف الجثة حاضناً للقنبلة، وهذا انتحار واضح، وأحياناً لا يكون ذلك ممكناً، وتكون الجثة مفتتة، وهناك وضع اليد التي كانت تحمل القنبلة، فإذا كانت مقطوعة فهذا مؤشر أنه لم يكن يحضنها، وهذا يصعّب الجزم بالانتحار”.

في حالات الوفيات بانفجار قنابل لم يجد المحققون دلائل انتحار مباشرة مثل الرسائل، ولكن في حالات أخرى استخدمت مسدسات وبنادق ووجدت رسائل مكتوبة على منصات التواصل الاجتماعي أو على الهاتف، منها حالة شاب من حمص يقيم في السلمية، يبلغ من العمر 46 عاماً “انتحر” بإطلاق رصاصة على رأسه تاركاً وراءه رسالة يقول فيها: “من تركتهم خلفي هم المنتحرون”، ولذلك سجّلت الواقعة “انتحاراً”.

في البحث عن الأسباب: إنكار اجتماعي وديني و.. سياسي!

عند غالبية البشر للانتحار والمنتحرين/ات “سمعة سيئة” مجتمعياً ودينياً وأخلاقياً، يقول المحامي “محمد.م” (36 عاماً، اللاذقية) إنّ “المنتحر يتخلى عن الحياة، الهبة الأعظم التي مُنحت له بإرادته، وهذا سبب أساسي في تحريم الديانات القتل وجعل الانتحار الـمُحرَّم الأكبر، ففي الإسلام تهديد واضح للمنتحرين/ات بأنهم سيكررون الانتحار في جهنم للأبد”.

وبسبب تشوّه السمعة الاجتماعية والفقد والموت المفاجئ، فإنّ المنتحر/ة يترك خلفه كمية هائلة من اليأس تصيب عائلة المنتحر ومحيطه الاجتماعي وسُمعته حياً وميتاً، ويرفض أهل المنتحر قبول فكرة انتحار أحد أفراد عائلتهم، في حالة وفاة بتفجير قنبلة يدوية أيضاً أقدم شاب في الثامنة والعشرين على تفجير قنبلة قرب نهر الشراشير في ريف اللاذقية، نهاية أيار/ مايو الماضي، ووفق الإعلام فإنه “لم تعرف أسباب إقدامه على ذلك”، والمكان الذي حدث فيه التفجير بعيد عن السكن، ووفق صديق للشاب طلب عدم ذكر اسمه قال: “إنّ الشاب خريج جامعي، وقبل تفجيره القنبلة كان خارجاً من علاقة حب عاصفة، وعلى الأرجح أن هذه العلاقة هي ما دفعته للانتحار”، والواقعة سجّلت “خطأ غير مقصود” بعد ضغوط من والده وترجٍّ للجهات المعنية فالأب مدير مالي لإحدى شركات القطاع العام.

في حالة أبو علي، يقول “حسّان” أحد معارفه، إنّ “ما يمكن أن يكون سبباً في انتحار أبو علي سمعة العائلة المحسوبة على كبار العائلات التي لها وزنها الاجتماعي والديني في القرية، وهناك كلام كثير أنّ الرجل ارتكب أخطاءً ضيّع بسببها أمواله وأراضيه في تجارة فاشلة، ثم أنه استدان من تجار معروفين بعلاقاتهم مع أجهزة أمنية لاحقوه وهددوه بالقتل إن لم يدفع ديونه التي فاقت مئة مليون ليرة سورية، كما سحب قرضاً من مصرف حكومي ولم يسدده، وهذه الأسباب دفعته لتفجير قنبلة بنفسه”.

“لا يمكن للقضاء في هذه الحالات إصدار أحكام مخالفة للطب الشرعي وتوصيفه للحالة”

ما يعزز احتمال الانتحار أنّ جثمان “أبو علي” وجد في أرض بعيدة عن القرية كما قال أهله، فكيف تم التأكد من المعلومة إذا كانت جثة الرجل وجِدت هناك؟

تقول المحامية “سمر” التي تابعت الحالة: “لنفترض وجود القنبلة في تلك الأرض مصادفة، فلماذا عندما وجدها الرجل سحب صاعق القنبلة لتنفجر به، وهو عسكري عتيق يعرف النتيجة؟ وبعد أن سحب الصاعق لماذا لم يلق بها بعيداً عنه؟ لذلك يمكن الظنّ بقوّة بانتحار”.

على أنّ هذا لا يفسّر سعي الأهل لتسجيل الواقعة “خطأ غير مقصود”، فهناك أسباب أقوى وتفعل فعلها في المجتمعات المحلية، ومنها كما يقول الشيخ “يونس” (65  عاماً) من رجال الدّين العلوي في قرية أبو علي: “المنتحر في عقيدتنا لا تجوز عليه الرحمة، ولا الصلاة عليه، ولا حتى جنازة كما جرت العادة، ولذلك اشتغلت عائلة الرجل على إثبات أنه مات غير منتحر، وبعد أن تأكدنا من بيان الوفاة الصادر عن الدولة تم إجراء جنازة طبيعية للرجل، ولكن كثير من الناس متيقنين أنه انتحر، ولا أحد يقول عند ذكر اسمه الله يرحمه”.

ولكن هذا ليس كل شيء أيضاً، في حالة مقتل شاب (34 عاماً) آخر في منطقة الدعتور (أطراف اللاذقية) في 23 أيار/ مايو، بانفجار قنبلة بعيداً عن الناس في أرض زراعية سُجّلت الواقعة “خطأ غير مقصود”، وهذا الشاب عسكري أيضاً ولديه عائلة من طفلين وزوجة، وفي حديث مع زوجة الشاب (أروى ـ اسم مستعار) (32 عاماً، قريبة زوجها وخريجة جامعية) قالت إنّ “زوجها كان طبيعياً وقت وفاته”، مضيفةً: “صحيح أن وضعنا الاقتصادي زفت لأن زوجي احتياط منذ ست سنوات ولا معيل لنا سوى الراتب الضئيل، ولكن كنا عايشين، وما حصل لا يمكنني تفسيره، وعلاقات زوجي مع الناس قليلة لأنه عسكري لا يحضر إلا نادراً”، وعند سؤالها إذا سُجّل زوجها “شهيداً” نفت ذلك (الشهيد له حقوق مضافة مادياً ومعنوياً).

تشير السيدة إلى أنّ تسجيل واقعة وفاة زوجها “خطأ غير مقصود” تمت بغير تدخل منها، فهي لا تعرف ما جرى ولماذا تم تسجيلها كذلك، “ربما لأنه عسكري ومن المعيب القول إنّ عسكرياً قد انتحر لأسباب اقتصادية، أو ربما لأن أهله وجدوها كبيرة أن يقال إن ابنهم انتحر!

من جانب آخر، “لا يمكن للقضاء في هذه الحالات إصدار أحكام مخالفة للطب الشرعي وتوصيفه للحالة”، يشير المحامي “علي” إلى أنّ السلطات لا تستجيب لطلبات الأهل في تسجيل وقائع الموت بغير توصيفها الحقيقي في حال وضوح الحالة، لأن الأمر مخالف للقانون، “ولكن الأهل هم من يشيع أنّ المسألة قضاء وقدر أو خطأ غير مقصود ويتكتّمون على الحقيقة”.

هل من تأثير قانوني؟

يستخدم الناس كثيراً عبارة “قضاء وقدر” دون إدراك أنّ ورائها تغطية على الأسباب الحقيقية المؤدية للموت، وهي عبارة “تخلّص العائلة والمنتحر من المسؤولية أمام المجتمع”، وفي الغالب، يقول المحامي “عليّ” (40 عاماً، اللاذقية)، “إنّ تسجيل وقائع تشبه الانتحار “خطأ غير مقصود” يأتي خلال مرحلة التحقيق، ويعزز فكرة القضاء والقدر، وقد يتساهل القاضي مع رغبة الأهل في عدم تسجيل الواقعة انتحاراً تقديراً منه/ا للوضع الاجتماعي للضحية وعائلتها، ولا يرتبط الأمر بالفساد بشكل مباشر، بل بأهمية وقيمة السمعة الاجتماعية في مجتمع تتشابك وتتداخل فيه القيم والعادات بشكل مكثّف، ويحاول الأهل دائماً الحفاظ على مخزونهم من هذه السمعة بكل الطرق الممكنة”.

قانونياً وأمام القضاء لا يؤثر تسجيل الوقائع “انتحاراً أو خطأ غير مقصود” على ما يلي الواقعة لجهة حصر الإرث أو العدة القانونية للمرأة أو تعويض العمل إذا كان موظفاً أو عسكرياً، مع ملاحظة أنّ القانون السوري يعتبر الانتحار حقاً شخصياً ولا يعاقب عليه، ولم يرد ذكر الانتحار في قانون العقوبات العسكري السوري، ولكن التأثير الاجتماعي ضمن البيئات السورية يبقى هو الأكثر إيلاماً لأهل الضحايا، وعليه، “فإنّ الأهل يصبون جهدهم على بيان الوفاة الأولي الذي يصدر عقب الوفاة مباشرة، وعلى الجهات التي تصدره ضغطاً عليها بغاية تثبيت الوفاة بشكل يمنع ويدرأ عنهم شبهة وعار الانتحار، وتكون الشرطة المدنية عادةً صاحبة الضبط الأول لواقعة الوفاة بالتعاون مع المختار أو جهات الطب الشرعي، ويمكن في هذه المرحلة توجيه الضبوط نحو نفي واقعة الانتحار شرط عدم وجود نوايا جرمية في الحادثة” كما يقول المحامي “عليّ”.

هل تتكتم السلطات على وقائع الانتحار أم ماذا؟

خلال سنوات الأزمة السورية لم تصدر تصريحات رسمية عن وجود حالات انتحار في قطاع العسكريين السوريين، كما أنّ تقارير الانتحار الرسمية (حسب علمنا) لا تذكر مهن المنتحرين، ولكن كان ملاحظاً من الأخبار المتداولة أنّ هناك نسبة من المنتحرين من العسكريين أو ممن يخدمون الخدمة الاحتياطية، بنفس الوقت يلاحظ سهولة الوصول إلى السلاح وخاصةً القنابل وهذه الأخيرة بالتحديد يمنع إخراجها من المستودعات وحملها من قبل الأشخاص بشكل قطعي، ويمكن ملاحظة أنّ استخدام القنابل في تزايد.

بشكل عام، كانت حالات الانتحار في سوريا لا تتجاوز حالة واحدة لكل 400 ألف من السكان العام 2010، وحسب منظمة الصحة العالمية، فإن مرتبة سوريا 172 من أصل 176 دولة على مؤشر الانتحار وفق موقع world population review المتخصص بالبيانات الديموغرافية، وأصبحت اليوم (حالتين لكل مئتي ألف من السكان) (إحصاءات العام 2022)، وهذا مؤشر ارتفاع في نسبة الانتحار والراغبين فيه، ووفق حديث طبيبة شرعية في دمشق معنا فإنّ “عدد محاولات الانتحار تتراوح بين ثلاث إلى أربع حالات يومياً”.

في محاولة التفسير يقول الدكتور “أحمد القاشي” أخصائي الطب النفسي والمقيم خارج سوريا: “هذه الأرقام ومؤشراتها قد تكون سبباً في توجه غير معلن للسلطات السورية في إعلان عدد من حالات الانتحار “خطأ غير مقصود” خاصة أن استخدام السلاح في عمليات الانتحار يعتبر الطريقة الأولى مرتبةً، حسب حديث سابق لمدير هيئة الطب الشرعي في سوريازاهر حجو“، والهدف من هذا الأمر التقليل من تأثيرات الأزمة الاقتصادية والنفسية وحالات الاكتئاب التي يعيشها السوريون في مناطق سورية مختلفة”.

من جانب آخر، يضيف الدكتور القاشي: “قد يكون توجه السلطات للتخفيف من ذكر حالات الانتحار بطريقة غير مباشرة نوع من الدعم لمناصريها، بهدف تخفيف الاحتقان الجماعي بين الناس على إثر هكذا أخبار، وأيضاً، إنّ ارتفاع نسبة الانتحار يشير إلى فشل السلطات في إدارة البلاد والعباد خلال سنوات الأزمة رغم أننا أمام وقائع قد تظهر فيها عوامل جرمية لاحقة لإصدار الحكم القضائي كظهور أدلة جديدة”.

في حالات الانتحار السابقة كان الوضع الاقتصادي السيء للمنتحرين عاملاً واضحاً في الانطباع العام للواقعة، وكثيراً ما يتم تداول هذه الحجة على أنها من أهم أسباب ارتفاع حالات الانتحار في سوريا، ولكن آخرين يرفضون هذا الربط بين الأزمة السورية الحالية والانتحار، يشير الطبيب”محمد” (65 عاماً، طبيب عام) إلى أنّ سوريا شهدت العام 2013 عدد حالات انتحار بلغت خمسين حالة فقط، وفي العام 2014 أي في خضم الأزمة لم تسجل سوى سبع حالات، فيما حصلت 175 حالة في العام 2022، واختلفت الأرقام بقية السنوات” ما معناه حسب الطبيب، إن “هناك زيادة في نسب الاكتئاب والقلق النفسي عند السوريين فاقمتها الأوضاع الأخيرة من غياب مقومات العيش وعدم وجود أفق واضح للحياة، لكن الوضع ليس مأساوياً كما يصوره البعض، والحالات لم تزداد بشكل دراماتيكي وليس هناك انتحار جماعي”.

ويضيف الطبيب أن الأزمة الاقتصادية قد تكون سبباً في الانتحار، ولكن هناك أيضاً “الأزمات النفسية والاكتئاب المقاوم للعلاج عند فئة من السوريين، ككل الناس”.

في آخر حالات انتحار وقتل موثّقة أقدم رجل في قرية “عين الحيّات” في ناحية حرف المسيترة ريف القرداحة في 26 حزيران / يونيو الحالي على قتل ولديه ثم الانتحار بإطلاق رصاصة على رأسه، وعلى ما توافر من معلومات فإنّ الأب طبيعي وليس لديه خلفيات اكتئابية أو مرضية. وتتكرر هذه الأخبار بشكل دوري على منصات التواصل الاجتماعي وغيرها، ليظهر إلى حد كبير، أن الانتحار، هو في أحد وجوهه، تعبير عن الاحتجاج والانكسار في حالة السوريين التي تعج بكثير من الأسباب الدافعة للانتحار، ومنها الاكتئاب الناتج عن ضغوط الحياة نفسها، وهذه الضغوط تخف في مجتمعات متضامنة مع بعضها تتلامس هموم أفرادها معاً، ولكن المجتمعات المنفتحة تدمّرت كثيراً في سوريا وتدمّرت معها الشبكات الاجتماعية الداعمة وبات اعتماد الفرد على نفسه وأفراد مثله متضررون من كل شيء، كما أنّ قيماً كثيرة تغيّرت وتحولت إلى عبء على أصحابها.