الفرات يُستنزف.. “شريان الحياة” في شمال شرقي سوريا مُهدد
الرقة – نورث برس
وصلت مناسيب مياه نهر الفرات إلى مستويات “متدنية” خلال الفترة الماضية، في ظل استمرار تركيا حبس واردات النهر إلى الأراضي السورية من أكثر من 30 شهراً.
ترافق تدني منسوب المياه مع نداءات دولية ومحلية لترك تركيا حصة سوريا المتفق عليها، لكن رغم ذلك لا تستمع الدولة المتحكمة بمجرى النهر الذي ينبع من أراضيها.
يعتمد سكان شمال شرقي سوريا، على نهر الفرات ويعتبر “شريان الحياة” للمنطقة، لكن انخفاض مستوى مياهه أثر على السكان إلى حد بعيد، من ناحية الكهرباء ومياه الري والشرب، ووصل لتهديد الأمن الغذائي والثروة الحيوانية.
تراجع مجرى النهر وتدني منسوبه أدى لارتفاع نسبة السمية في مياهه والتي صارت بيئة خصبة لانتشار الأمراض والأوبئة، بسبب قلة تدفق النهر وبطئ جريانه.
استنزاف كارثي
يقول عماد عبيد، وهو مسؤول في إدارة السدود العامة في شمال وشرق سوريا، إن استمرار حبس مياه نهر الفرات انعكس على الحالة الصحية والبيئة والاقتصادية للإدارة الذاتية.
ويضيف أن النقص الحاد في الوارد المائية من الأراضي التركية، ساهم بضعف توليد الطاقة الكهربائية وتلوث مياه الشرب، ما أدى لانتشار الأمراض والأوبئة، الأمر الذي ينذر بـ”كارثة إنسانية حقيقية”.
بحسب الاتفاقية الموقّعة بين تركيا وسوريا والعراق، في العام 1987، تكون حصة سوريا من نهر الفرات 500 متر مكعب من المياه في الثانية، برعاية ومراقبة الأمم المتحدة، “لكن منذ نحو عامين توقف الجانب التركي عن إرسال ما هو متفق عليه، ما دفع إدارة السدود للاستجرار من المخزون الاستراتيجي للبحيرات”، وفقاً لـ “عبيد”.
وأضاف أن الوارد المائي الذي لا يتجاوز 250 متراً مكعباً في الثانية، ويستنزف بـ “الضياعات” من تبخر ومياه شرب وري، ففي فصل الصيف يتبخر من بحيرة الفرات بحدود بين 80 إلى 100.
بالإضافة لتمرير 75 متر في الثانية عبر مأخذ الري في نهر الفرات، واستجرار 70 متر لمحطتي الخفسة والبابيري، اللتين تزودان مدينة حلب بمياه الشرب.
في حين تبلغ الحصة الممررة إلى العراق 180 متر مكعب في الثانية، وهذه الكميات تزيد عن الكميات التي تدخل من الأراضي التركية ويتم تعويضها من مخزون البحيرات، طبقاً للمسؤول.
وكشف أن كمية المياه المخزّنة خلف سد الفرات، تراجعت من 14 مليار متر مكعب إلى 10 مليارات فقط، بسبب الاستنزاف، حيث خسرت البحيرة 75 بالمئة من المخزون الفعّال.

يقول “عبيد” إن المنسوب الأعظمي لبحيرة الفرات يبلغ 304 أمتار فوق مستوى سطح البحر، بينما وصل المنسوب بسبب الاستنزاف إلى 297.75، حيث فقدت البحيرة أكثر من 6 أمتار عمودية، وتفقد بشكل يومي 2 سم.
ويبلغ المستوى الميت الذي لا يسمح به بتشغيل مجموعات التوليد 296 متر عن سطح البحر، أي أن البحيرة أصبحت على بُعد أقل من متر للخروج عن الخدمة، “في حال استمر حبس المياه سنضطر لتوقف السد عن العمل”.
ويعلل ذلك، أن عنفات سد الفرات تحتاج لضاغط، يتطلب في أدنى مستوى له 40 متراً حتى تعمل، والضاغط هو فرق المنسوب بين مستوى البحيرة ومنسوب النهر.
مخالفة قوانين دولية
يعتبر قانونيون أن حبس تركيا لمياه نهر الفرات، “انتهاك” لميثاق الأمم المتحدة، باعتبارها الجهة الراعية لتنظيم الأنهار العابرة والحدود المائية، حيث أن للأنهار العابرة للحدود اتفاقيات دولية ترعاها الأمم المتحدة، وهي قانون دولي يُلزم دولة المنبع، بكميات معينة يجب أن تمر لدول المجرى والمصب.
وتنصّ المادة السابعة من اتفاقية قانون استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية الموقعة عام 1997، على الامتناع عن التسبّب بأضرار جسيمة للدول الأخرى عند استخدام المجرى المائي الدولي.
لكن منذ توقيع اتفاقية 1987 واصلت تركيا تمرير المياه بالكميات التي تريد، وبمواصفات بعيدة عن الشروط الصحية المقبولة، وطالما حولت تركيا نهر الفرات كأداة ضغط ضد سوريا، إذ تعتبر أن النهر سلعة تخصّها، وتلجأ لاستخدامه كأداة أكثر تأثيراً من الحرب العسكرية.
ما قبل الاحتضار
يعتبر حمود حمادين، وهو إداري سد تشرين في منبج، أن الواقع المائي الذي تعانيه شمال شرقي سوريا بتدني منسوب نهر الفرات، وصل إلى “مرحلة ما قبل الاحتضار”.
ويقول إنه رغم مرور فصل الصيف الذي وصفه بـ”الشاق والمتعب”، حيث حاجة المياه في ذروتها، لم تطرأ أي تغييرات في الوارد المائي، وسط عدم استجابة للمناشدات الداخلية والدولية لعودة منسوب النهر إلى ما كان عليه.
ويضيف أن تعويض الفاقد من بحيرة الفرات يأتي من بحيرة تشرين، لكن المنبع واحد، لذلك لا يتم التعويض، في ظل الحاجة لتوليد الكهرباء وتأمين مياه الشرب الري والتبخر.
وتشهد مياه البحيرات استنزافاً مستمراً رغم برامج الترشيد التي تتبعها إدارة السدود في الإدارة الذاتية، وقد وصلت إلى توقف بشكل كامل لسد تشرين في آذار/ مارس الماضي، لتفادي الوصول إلى مناسيب ميتة.
في آذار/ مارس الماضي وصلت بحيرة سد تشرين إلى المستوى الميت، ما أجبر إدارة السدود لتوقف عمل السد بشكل كامل، واضطرها إلى تطبيق ترشيد وتقنين بالحد الأدنى لطاقة السد، تفادياً لتوقف السد.
ويبلغ المنسوب الأسمى لبحيرة سد تشرين 325 متر عن مستوى سطح البحر، بينما يبلغ في الوقت الحالي 321.5 متر، ويفصله عن المستوى الميت متر ونصف فقط.
ويشير “حمادين إلى أن الوارد المائي من الجانب التركي يتراوح بين 180-250 متر مكعب بشكل “متذبذب”، وتلك الكمية لا تغطي احتياجات مياه الشرب والري، والتبخر.
آثار سلبية جسيمة
من أهم الآثار التي رافقت تدني منسوب مياه نهر الفرات تتجلى بفقدان التيار الكهربائي، وقلة ساعات التغذية، “في حال عاد المنسوب إلى المستوى الطبيعي، من الممكن أن يتم تشغيل عنفات سد تشرين الست، أو تشغيل عنفات سد الفرات الأربع، ما يعني أن يتوفر تيار كهربائي على مدار 24 ساعة”، وفق الإداري.
لكن في ظل الواقع الحالي لمياه السدود، تُطبق إدارة السدود برنامج ترشيد بتوليد الطاقة الكهربائية بالحد الأدنى، إذ تعمل عنفتين في سد تشرين لمدة ست ساعات فقط، بحمولة تصل إلى 150 ميغا من أصل 210 ميغا، و “هذا هدر في مردود العنفة”، بسبب قلة تمرير المياه عبرها”.
يرى “حمادين” أن تراجع منسوب نهر الفرات هدد الأمن الغذائي في شمال شرقي سوريا، وأدى لخروج آلاف الهكتارات عن الخدمة، بسبب بعدها من مجرى النهر، وعدم ثقة المزارعين بمنسوب النهر، وتخوّفهم من انحساره وخسارة مواسمهم.
وتكبّد مزارعون في سرير نهر الفرات خسائراً فادحة، نتيجة انحسار مجرى النهر، ما أجبر بعضهم على شراء قساطل لتوصيلها بين الحين والآخر، واستئجارهم آليات ثقيلة لحفر قنوات صغيرة في مجرى النهر القديم إلى أقرب مسافة لأراضيهم.
وتلك العملية تُكلف المزارعين مبالغ طائلة من شراء قساطل ومحركات استجرار للمياه وتكاليف الإصلاح والمحروقات، ما زاد من معاناتهم.
ويعتبر نهر الفرات “شريان حياة” للسكان على طول مجراه، إذ يعتمد غالبية السكان على الزراعة كمصدر أساسي للدخل بالإضافة لتربية المواشي.
حقوق مقدّسة.. لكنّها مستباحة
يقول حمادين إن مياه الشرب “حق مقدس” وغير قابل للنزاع، لكن هذا الحق بات “مهدداً” وفق تعبيره، حيث أصبحت مياه الفرات بيئة خصبة لتكاثر الأمراض الأوبئة والجوائح، إذ أصبحت نوعية المياه رديئة.
ويساهم تراجع تدفق نهر الفرات بارتفاع تركيز السموم من المياه الثقيلة الصناعية و”العادمة” الناتجة عن قنوات الصرف الصحي التي تحوّل تركيا مصبه إلى النهر.
كما تسبب تدني منسوب النهر بخروج محطات مياه شرب عن الخدمة، كذلك صعوبة في الحصول على مياه بنوعية جيدة تصلح للشرب.
وتحوّل نهر الفرات إلى ما يشبه المستنقعات، ما أدى لانتشار الأمراض والأوبئة، بسبب ارتفاع نسبة التلوث في مياهه، وبات الاستخدام المباشر للمياه يهدد حياة السكان.
تصون القوانين الدولية الحق في الحصول على مياه شرب وخدمات صرف صحي مأمونة، وكرّست هذا الحق اتفاقية حقوق الطفل وقرارات الأمم المتحدة واتفاقيات جنيف، وتعتبره حاسم الأهمية بقدر أهمية الغذاء والرعاية الصحية والحماية من الاعتداءات.
وفي تموز/ يوليو 2010، أعلنت الأمم المتحدة أن مياه الشرب الآمنة والنظيفة وخدمات الصرف الصحي حق من حقوق الإنسان الأساسية للتمتع الكامل بالحياة وسائر حقوق الإنسان الأخرى.
ثروة مهددة
يشير حمادين إلى أن تراجع منسوب مياه النهر وانخفاض مستوى البحيرات أثّر على الثروة الحيوانية بشقيها البري والبحري، حيث تأثرت الثروة السمكية في البحيرات بسبب ارتفاع تركيز المياه العادمة، كماً ونوعاً، إذ يهدد انخفاض المنسوب وجودها.
ويرى أن تأثير النهر على الزراعة مرتبط إلى حد بعيد بالمواشي، إذ أن استقرار منسوب النهر من شأنه أن يسهم بتأمين دورة علفية للمواشي، وينعكس إيجاباً على المربي والاقتصاد.
كما أن فقدان الاستقرار المائي الغذائي المعيشية، يدفع السكان لبيع أراضيهم ومواشيهم والهجرة إلى الخارج، وفق ما يرى “حمادين”.