القصة كاملة.. كيف بدأت احتجاجات السويداء؟

عمر شريف ـ السويداء

دخلت احتجاجات السويداء أسبوعها الرابع، وسط استمرار المحتجين في مطالبهم برحيل الرئيس السوري بشار الأسد ونظامه الحاكم، وتطبيق القرار الأممي 2254.

الملفت في هذه الاحتجاجات عدة أمور تظهر من علو سقفها منذ البداية والنسق التصاعدي لزخمها ودرجة الوعي العالي التي يتمتع بها المحتجون واختلافها من حيث الطريقة والتنظيم عما تشهده سوريا من احتجاجات منذ 2011 وحتى الآن.

بالإضافة إلى تطور مهم وهو تغيير مبدأ مناهضة النظام في درعا مهد الثورة وصاحبة الخبرة الثورية العالية واتباع نهج السويداء بالتركيز على السلمية ومحاولة إيجاد قيادة وطنية لحراك درعا على غرار الشيخ حكمت الهجري في السويداء، ولكن يبقى السؤال كيف بدأت الاحتجاجات في جبل العرب؟

الأسباب البعيدة.. التراكم عبر 12 عام

لم يكن العداء بين حكومة دمشق وأهالي جبل العرب عند انشقاق الضابط خلدون زين الدين عن القوات الحكومية والتحاقه بالمعارضة المسلحة عام 2011، ولا حتى مقتله أثناء معارك مع الأمن العسكري في ظهر الجبل في السويداء، بل كانت البداية عند وفاة الشيخ أحمد الهجري الرئيس الروحي الأول لطائفة المسلمين الموحدين الدروز في سوريا في حادث سير قرب قرية مردك أودى بحياته في 24/3/2012.

واتهم سكان السويداء، “النظام” بتدبير الحادث وذلك لعدة أسباب منها: “رفض الشيخ الهجري التبرؤ من خلدون ورفض دعوته للعودة عن انشقاقه والتوبة خوفاً من مصير مشابه لمصير المقدم حسين هرموش ابن إدلب”.

هذه الحادثة كانت بداية التراكم ومقدمة العداء بين الأسد والدروز. لكن الحادثة الثانية الكبرى، كانت تفجيرا عين المرج والمشفى الوطني في 4/9/2015، واغتيال الشيخ وحيد البلعوس مؤسس حركة رجال الكرامة وسقوط ضحايا بالعشرات نتيجة التفجيرين وظهور أدلة عن تورط شعبة الأمن العسكري بقيادة العميد وفيق ناصر مدعوماً بغطاء من الشيخ يوسف جربوع للقيام بالعملية وما تلاها من اتهام الشاب وافد أبو ترابة وبث اعترافات له من قبل التلفزيون السوري بقيامه بزرع مفخخات، وقيل عن هذه الاعترافات بأنها “تحت التعذيب”.

وأيضا اغتيال أمين فرع حزب البعث في السويداء شبلي جنود، وإلصاق التهمة بحركة رجال الكرامة وظهور التسريب الشهير عن لسان “جنود” متحدثاً إلى وفيق ناصر: “قتلتو البعلوس ليش لتفجر المشفى” والتي عدها سكان السويداء سبباً لقيام النظام بقتله.

أما الحدث الأكبر في التراكمات كان نقل عناصر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) من مخيم اليرموك والحجر الأسود في دمشق إلى بادية السويداء الشرقية، بالتزامن مع سحب قوات الجيش السوري من شرق المحافظة وقيام “داعش” بالهجوم الدموي على السويداء في 25/8/2018 والذي راح ضحيته العشرات من سكان الجبل، بالإضافة لتقاعس الجيش عن المؤازرة أثناء صد السكان للهجوم إلا بغارات جوية قليلة وخجولة.

متابعة لأفعال حكومة دمشق، بحق أبناء الجبل للسيطرة عليهم، كان السماح لأحمد العودة قائد اللواء الثامن في الفيلق الخامس في درعا الهجوم على القريا وريف السويداء في 2020  وتأسيس فصائل مسلحة امتهنت القتل والخطف وتجارة الممنوعات في السويداء وكانت أكبرها وأقواها وأكثرها ترهيباً هي قوات “الفجر” بقيادة راجي فلحوط والتي تمكن سكان السويداء من اقتلاعه وقواته وتدمير معامل الكبتاغون التي كانت تابعة له وبحماية المخابرات السورية وحزب الله اللبناني في انتفاضة 2022 التي انتهت بهروب فلحوط وسحق حركته.

الأسباب القريبة وتراكمات الأربع العجاف

دأبت دمشق على محاربة السكان اقتصادياً في المناطق التابعة لسيطرتها منذ عام 2019 من خلال التلاعب بسعر الصرف بطريق مفرطة ومبالغ بها وتقوية التجار على حساب الشعب وترك الأسواق والأسعار بيد التجار الكبار بالإضافة لسن القوانين الأمنية والاقتصادية الغريبة مما سبب ارتفاعاً جنونياً في الأسعار مع ثبات دخل المواطنين.

بالإضافة للقبضة الأمنية والإخفاء القسري للمواطنين والتي نالت السويداء منه نصيبا كباقي المحافظات وطريقة “النظام” معروفة باعتماد إرهاب الدولة (حسب تعريف حزب البعث ودستور 1973/2012) بتوظيف المخبرين من كوادر حزب البعث وكتابة التقارير الكيدية بالمواطنين وزرع ثلاثة حواجز في طريقهم إلى دمشق لاعتقال المطلوبين الجاهلين لمعلومة أنهم مطلوبون إضافة للإتاوات على حركة النقل والشحن وهذه الحواجز هي بالترتيب من الجنوب إلى الشمال حاجز المسمية (أمن دولة) -حاجز العادلية (أمن عسكري)-حاجز قصر المؤتمرات (مخابرات جوية) .

وليس آخراً تحويل محافظة السويداء الحدودية مع الأردن إلى مركز لصناعة المخدرات والكبتاغون ومكانا لبيعها بالإضافة لجعلها خطا للتهريب إلى الأردن والخليج وتوريط أبناء السويداء بهذه التجارة.

الأسباب المباشرة وفقدان الأمل

إن تضييق مؤسسات الدولة على العنصر الشاب اقتصادياً واجتماعياً ووضع عراقيل أمام طلاب الجامعات في دمشق وارتفاع تكاليف استخراج جواز السفر وصعوبة الحصول عليه، جعل الشباب في السويداء يعاني من الضياع وهذا ما تنبه له الأهل والمثقفون خوفاً على أبناءهم ومستقبل المحافظة.

وما سبق أوقع العنصر الشاب في السويداء في حصار تام وترك مصير أي شاب إلى إحدى ثلاثة وهي: “أولا المخدرات: فإما مهرب أو متعاطي أو عنصر في عصابات المخدرات، ثانياً الهجرة: من يرفض الخوض في أتون المخدرات سيكون لزاماً عليه الهروب بنفسه خارج البلاد لتأمين حياة أفضل والنجاة بنفسه”.

وأما الخيار الثالث فهو “الاعتقال والإخفاء القسري: فمن لم يستطع الخروج من سوريا ونأى بنفسه عن المخدرات سيتذمر من فعائل النظام وهي كفيلة بتضييع مستقبله، وستكون أقلام كوادر حزب البعث في المرصاد له وحواجز وسجون النظام مشرعة الأبواب أمامه”.

شرارة الانطلاق

إن التراكمات القديمة والوضع الاقتصادي المتردي وخوف الأمهات والآباء على مستقبل أبنائهم وموت الأمل بمستقبل أفضل كونت مزاجاً عاماً مناهضاً للنظام الحاكم، وهذا ما يفسر المشاركة النسائية الكبيرة في الحراك من الأمهات التي ترى بأن من حقها أن يعيش أبناءها تحت كنفها وألا تخسرهم في الثالوث الرهيب (المخدرات والهجرة والاعتقال)، وان موت الأمل بتحسن الأوضاع جعل الشباب الذي كان صغيراً أثناء ثورة 2011 يثورون على “النظام” ولكن كل هذا كان بحاجة لشرارة لتفجير الاحتجاجات.

وكالعادة لا تفشل دمشق بتوفير كل عوامل مناهضتها اذا أصدرت زيادة الرواتب المنتظرة من عامين مترافقة مع رفع الدعم عن الوقود الذي أدى لزيادة مرعبة بالأسعار وقرب شبح المجاعة من عقول الناس، فبدأت الدعوات على مواقع التواصل للاحتجاج يوم الخميس 17/8/2023 ولبى بعض المواطنين النداء في ساحة الكرامة في السويداء وضريح سلطان باشا الأطرش في القريا وكانتا النقطتان اللتان بدأتا الحراك.

ظهر في الحراك تياران الأول مطلبي يريد مطالب اقتصادية واجتماعية دون المساس برأس “النظام”، وتيار ثان يريد “إسقاط النظام” كحل لجميع القضايا، وهنا رجحت كفة التيار الثاني مدعوماً بالعنصر النسائي والعنصر الشاب والمثقفين.

واتفق محتجو ساحة الكرامة على العصيان المدني الذي بدأ يوم الأحد 20/8/2023 الساعة السابعة صباحا وتوقف الحراك في ساحة الكرامة يومي الجمعة والسبت، لكنه استمر بوقفات مسائية تبنت شعارات “إسقاط النظام” في القريا.

وفي صباح يوم الأحد 20/8 وفي تمام الساعة السابعة صباحاً، أعلن بدء العصيان المدني وأغلقت المؤسسات الحكومية والمحال التجارية وقطعت الطرق وتوقفت حركة النقل في المحافظة بنسبة عالية وخرجت مظاهرات في 36 نقطة في السويداء كانت أكبرها في ساحة الكرامة وسط المدينة.

واستمرت المظاهرات في الأيام التالية مع تبني الشيخ حكمت الهجري شيخ العقل الأول للطائفة الدرزية مطالب المحتجين والتزام عدة فصائل بحماية المظاهرات السلمية.

واستمرت المظاهرات تأخذ زخماً متصاعداً من حيث العدد والنوع، فتمكن المحتجون من سحق حزب البعث في المحافظة وإقفال كافة المباني التابعة له وإزالة صور وتماثيل للأسد ووالده حافظ.

ومازالت الاحتجاجات مستمرة متصاعدة للأسبوع الرابع، وسط ذهول وعجز من المخابرات الحكومية والأجهزة الأمنية التي بدت بلا حول ولا قوة أمام سلمية ووعي المظاهرات وحكمة الشيخ الهجري والتفاف الشارع حوله، ويزدادون إصراراً وثقة بنصرهم على الأسد بالطرق السلمية والوطنية ويصفون حراكهم بـ”الثورة الجامعة لكل السوريين”.