أصبحت سوريا خارج نطاق الاهتمام بشكل عام، فأخبار الصحافة الدولية عن البلاد عادةً ما تكون مستوحاة من آخر التطورات التي يدلي بها المسؤولون في الأمم المتحدة ومجلس الأمن التابع لها، كالتحذيرات العاجلة حول الأزمة الإنسانية واستمرار العنف وانهيار العملة السورية.
لكن وفي الأسابيع الأخيرة، عادت محن ومصاعب سوريا إلى العناوين الرئيسية في الأخبار، في حين أن الحرب الأهلية بين حكومة الديكتاتور بشار الأسد وخصومها المسلحين قد اقتربت من النهاية إلى حد كبير، إلا أن هناك الكثير من المشاكل لا تزال تحدث في سوريا.
تم تداول أهم حدث بخصوص سوريا هذا الأسبوع في محافظة دير الزور الشرقية التي تمتلك معظم احتياطيات النفط الضئيلة والموارد الزراعية في البلاد، حيث تمّ تقسيم هذه المنطقة بين القوات الموالية للحكومة السورية وقوات سوريا الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة حيث يعمل نهر الفرات كخط فاصل بينهما.
كانت دير الزور مركزاً رئيسياً لتنظيم الدولة الإسلامية عندما حكم حوالي ثماني ملايين شخص عبر منطقةٍ ممتدة بين سوريا والعراق في عامي 2014-2015، وهو ما يعرف بالخلافة الإقليمية التي تم القضاء عليها ونسيانها منذ أربع سنوات. ومنذ ذلك الحين، حكمت الإدارة الكردية المسيطرة على المنطقة بالتعاون مع القبائل العربية التي لها تأثيرٌ كبيرٌ في المنطقة.
المشكلة الوحيدة هي أن العلاقات بين الكرد والقبائل العربية لم تكن جيدة عل الإطلاق، فقد كان المقاتلون الكرد مترددين في توسيع حملتهم العسكرية ضد داعش إلى دير الزور لهذا السبب بالضبط، ولكنهم أخيراً اقتنعوا (أو ربما تم ممارسة الضغط عليهم) من قبل داعميهم الأمريكيين بتجاهل تلك المخاوف، بينما لم تكن العلاقة بين الكرد والعرب متينة على الإطلاق، إلا أنها نشأت على وجه الضرورة، إذ كان الخصم المشترك هو تنظيم داعش الذي كان يجب القضاء عليه، حيث عملا معاً بشكل جيد نحو تحقيق هذا الهدف.
ومع زوال العدو المشترك، بدأ الشريكان بالخصام مع بعضهما البعض بشكل متزايد، فالسكان المحليون العرب في دير الزور لديهم قائمة من الشكاوى ضد الإدارة الكردية، ووفقاً لمصادر موثوقة على أرض الواقع هناك، فإن القبائل قد طلبت من الولايات المتحدة أن تضغط على الكرد لمنحهم مزيداً من السيطرة إذا لم يكن الحكم ذاتياً على المنطقة.
تجاهلت الولايات المتحدة نصيحة الآخرين، متحفظة بقلب الأوضاع لصالحها والتلاعب باتفاقية دامت سنوات والتي تعتقد واشنطن أنها عملت بشكل نسبي جيد.
تخبّطت هذه الأمور جميعها في نهاية شهر آب، عندما حصلت قوات سوريا الديمقراطية على معلومات استخباراتية تفيد بأن رئيس مجلس دير الزور العسكري (أبو خولة) كان يسعى إلى طرد السلطات الكردية والسيطرة على المنطقة بنفسه. اعتقل الكرد هذا الزعيم المتمرّد وبعض من مساعديه الكبار.
في الواقع، كان يجب أن يكون هذا نهاية الأمر، ولكن اعتقال أبو خولة ألهم انتفاضة صغيرة في دير الزور ضد حكم الكرد، مما اضطر قوات سوريا الديمقراطية إلى إرسال تعزيزات لقمع تلك الانتفاضة. كان الشركاء السابقون ضد تنظيم الدولة الإسلامية يقاتلون ضد بعضهم البعض مما دفع التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة إلى نشر نداء لوقف إطلاق النار. وقد جاء في بيان صحفي صادر عن التحالف التالي: نظراً للتمسك بموقفنا في دعم قوات سوريا الديمقراطية فإننا نحث جميع القوى على وقف القتال على الفور والوصول إلى حل سلمي يتيح لنا التركيز على هدفنا المشترك وهو القضاء الدائم على داعش.
استمر العنف وتمّ الإبلاغ عن مقتل ما يصل إلى مئتي شخص في الاشتباكات، وذهب كبير مسؤولي وزارة الخارجية الأمريكية وقائد التحالف العسكري بقيادة الولايات المتحدة إلى شمال شرقي سوريا لمحاولة التوصل إلى حلٍ سلمي بين قوات سوريا الديمقراطية ومجلس دير الزور العسكري حتى لا يتلاشى التركيز في هذه الفوضى على الهدف الرئيسي وهو محاربة بقايا تنظيم داعش.
وفي الأيام التي مرت منذ ذلك الحين، تمكن الكرد من السيطرة على المقاومة العشائرية واستعادة البلدات التي فقدوها مسبقاً ومحاصرة ما تبقى من المتمردين. وخلال كتابة هذا المقال، اتفق الكرد وخصومهم العرب على وقف العنف وبدء المناقشات حول نظام سياسي جديد للمنطقة.
بالنسبة لمعظم الأمريكيين، يُعتبر التصعيد في شرقي سوريا مزيجاً مُربكاً من الأحداث، ولا يمكن أن نلومهم على هذا التصوّر فتركيبة سوريا الداخلية تشبه مشهداً متطوراً باستمرار من مجريات الحياة، حيث يمكن أن يتحول الشركاء السابقون إلى خصوم ثم يتفقون على حل خلافاتهم مع مرور الوقت.
المواجهات بين الكرد والعرب لا تمثل إلا جزءاً ضئيلاً من القصة، حيث تقوم تركيا التي هي حليفة للولايات المتحدة أحياناً بقصف الكرد السوريين الذين يتلقون أيضاً دعماً أمريكياً، وتجري روسيا التي هي خصم للولايات المتحدة مناقشات مستمرة مع الكرد السوريين الذين بدورهم قد لمّحوا إلى إمكانية التوصل إلى اتفاق سياسي مع بشار الأسد الذي هو أيضاً خصم للولايات المتحدة، وكذلك تُرسل المليشيات المدعومة من قبل إيران أحياناً طائرات مُسيّرة مفخخة وصواريخ نحو قواعد أمريكية في شرقي سوريا، وقد شاركت في معارك برية ضد ما تبقى من تنظيم داعش، وأيضاً تستهدف القاذفات الروسية التي تقترب بشكل خطير من طائرات أمريكية مواقع داعش في مركز البادية السورية.
باختصار، يمكن للصراع الكامل في سوريا أن يدخل المرء في دوامة.
لماذا تحتل مثل هذه الأمور أهمية بالنسبة للولايات المتحدة؟ لأن هناك ما يُقارب من 900 جندي أمريكي متمركز في شرقي سوريا منذ أكثر من أربع سنوات بعد إنجاز مهمتهم الأصلية التي كانت القضاء على الخلافة الإقليمية لتنظيم داعش، ووفقاً للمهمة الظاهرية فإنهم مكلّفون بمنع عودة داعش وتحقيق الهزيمة المستدامة له، وقد تحولت المهمة منذ فترة طويلة إلى نمط الانتظار ببساطة، حيث يتم أمر القوات الأمريكية من قبل السياسيين في واشنطن بالبقاء في سوريا بناءً على جدول زمني غير محدد.
من غير المُستغرب أن تجد الولايات المتحدة نفسها مرةً أخرى في وسط الانقسامات العرقية والعشائرية المعقّدة في سوريا وطُلب منها التخفيف من المشكلات الجذرية التي تتجاوز قدرتها على حلها، فكلما استمرت القوات الأمريكية في سوريا لفترة أطول، كلما كان من المُرجّح أن نشهد مثل هذه الأحداث التي لا تنتهي وتتكرر مراراً وتكراراً.
كتبه دانيال آر ديبتريس لمجلة نيوز وييك الأمريكية وترجمته نورث برس