ليلى الغريب ـ دمشق
يقول أحد تجار دمشق، إن في مدينته موظف حكومي “لا يرتشي”، ومن حديثه يتبين أنه شخص استثنائي، لأن السائد أن البقية يرتشون منه، ولكن التاجر أردف لنورث برس، أنه اكتشف مؤخراً أن “الرجل سقط في بحر المرتشين ولم يتمكن من الصمود أمام ضغط الظروف التي تعرض لها”.
وتنفق الحكومة السورية الكثير من الوقت والخطط في الحديث عن الإصلاح الإداري ومحاربة الفساد الذي ينهش في جسد الدولة.
وخصصت وزارة بصلاحيات واسعة وإنفاق كبير (التنمية الإدارية)، لمتابعة الجانب الإداري في الدولة وتحسين واقعه، ولكن لم يحصل أي تغيير يذكر خلال كل تلك العقود.
ويرى سوريون أن عدم الإصلاح والتحسين “لأن المشكلة في مكان آخر، وهو ما تتعامى عنه الحكومات المتلاحقة، رغم أنها جوهر المشكلة وطريق علاجها دون الحاجة إلى وزارة وما ينفق عليها مما يمكن توظيفه في أماكن أكثر جدوى”.
مستنقع واحد
الدخل المنخفض جعل الموظفين الذين يسعون لتحصين أنفسهم من الفساد والرشوة في حال لا يحسدون عليه، بسبب ضغط الحاجة، وضغط البيئة المحيطة التي تدفع الجميع للانخراط في تأمين حاجاتهم وتحسين مداخيلهم بالشكل المتاح أمامهم وغالباً هو في الرشوة وابتزاز الناس بشتى الطرق.
وصار العثور على شخص لا يقبل أي نوع من الرشوة بمثابة “الاكتشاف الذي يدفع إلى الدهشة”، تقول إعلامية في مؤسسة حكومية، إن موظفة تعمل لدى مكتب رجل أعمال، أظهرت استغرابها حين عرضت على الإعلامية مبلغاً من المال اعتاد رجل الأعمال ذاك أن يقدمه دون مناسبة ظاهرة.
ولا يتوقف الخلل في الجهاز الإداري عند تقاضي الرشى فقط، بل يتعداه إلى التعامل مع المنصب وفقاً لما يحققه من أرباح، ولذلك لا ينظر غالباً لإمكانيات الشخص الذي سيتم توظيفه، بل لمن سيتم منحه المزايا الموجودة في هذا المنصب، ولذلك قلما تجد شخصاً في مكانه، ومع ذلك تنفق الحكومات الكثير من الوقت والمشاريع والمخططات في الحديث عن الإصلاح الإداري ومحاربة الفساد وعلاج الترهل وسوء الأداء مع أجور لا تكفي حتى للمواصلات.
مديرة سابقة في إحدى المؤسسات الحكومية تقول لنورث برس، إن الحديث عن إصلاح إداري أو مكافحة الفساد دون علاج القدرة الشرائية لموظفي القطاع العام وتحسين الأجور التي لا تكفي لتلبية الحاجات الرئيسية والأساسية للمواطن “هو حديث لا لزوم له”.
وتضيف أن كل من يتحدث عن مكافحة الفساد في ظل هذه الرواتب الهزيلة هو “شخص منفصل عن الواقع”، وخاصة أن الجميع يتابع كيف يُدفع الناس ليتصارعوا على الفتات في الشوارع والأسواق، وأن “يأكلوا بعضهم” دون وجود من يراقب أو يحاسب، وكأنهم يدفعون الناس كي يتدبروا أمور حياتهم على حساب بعضهم.
ولفتت إلى أن “الفاسدين معروفون سواء كبر حجمهم أو صغر، والجميع يتفاجأ دائماً بترقية الكبار منهم وتنقلهم من مكان إلى آخر بما يؤكد أنهم محميون من أعلى المسؤولين”.
مشاريع وخطط
وكانت الحكومة أقرت في مطلع حزيران/ يونيو من عام 2019، “وثيقة الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد”، وبعد عام على إقرار تلك الوثيقة وفي 19 أيار/ مايو 2020، اعتمدت الحكومة البرنامج الوطني التنموي لسوريا ما بعد الحرب 2030.
وكان من بين المحاور: “تعزيز النزاهة والشفافية، وإصلاح النظام القضائي والأجهزة الرقابية، وبناء المؤسسات القوية والفعالة، والتنمية الإدارية، وإصلاح القطاع العام الاقتصادي. وما زالت هذه الخطط والبرامج تنتقل من عقد لآخر ومن درج مسؤول لآخر دون أن يطرأ أي جديد ولتبقى كل تلك العناوين حبراً على ورق”.
الخبير الإداري عبد الله العلي، يقول لنورث برس، إن على أي جهة وقبل أي حديث عن الإصلاح الإداري ومكافحة الفساد، أن تضمن زيادة الأجور بنسبة لا تقل عن 300% بشكل إسعافي، وأن لا يقل أدنى راتب عن مليون ليرة “عندها يمكن أن تتحدث كما تريد”.
ويوضح أنه في حال اتخاذ ذلك الإجراء كخطوة أولى من خطوات الإصلاح يأتي الحديث عن ضرورة تغيير الجهاز الإداري بنسبة لا تقل عن 90%، لأن من اعتاد على الرشى والفساد لا يمكن أن يقلع عن هذه العادة حتى لو تحسن دخله.
ولكن الحقيقة أن المتابع للقطاع الإداري في سوريا، يلمس الخلل الكبير فيه حسب “العلي”، حيث توضع الخطط الاقتصادية ولكنها تبقى على الورق، رغم إمكانية تطبيقها، ولكن المؤشرات الاقتصادية السيئة تدل على عجز الحكومة عن إدارة موارد المجتمع بالكفاءة المنشودة، بما يشير إلى أن الحكومات المتلاحقة لا تعمل لصالح عامة الناس والمجتمع وهذا مؤشر على خلل في البيئة العامة بدليل تغير الحكومات واستمرار النتائج ذاتها.
دورة الفساد
وسبق للخبير الإداري عبد الرحمن تيشوري، أن قدر قيمة دورة الفساد في سوريا بنحو 4 آلاف مليون دولار، ولفت في تصريح لوسيلة إعلام محلية إلى أن ذلك المبلغ وحده يمكن أن يحقق زيادة لا تقل عن 100% للأجور دون الحاجة لرفع سعر أي سلعة.
وقال إن الزيادة الأخيرة لا تحدث فرقاً، لأن الحد الأدنى للأجور لم يصل إلى 186 ألف ليرة خاضعة للضرائب، بينما يجب أن لا يقل الحد الأدنى للراتب عن 500 ألف ليرة معفية من الضرائب.