يستند الليبراليون عموماً، وفي بلادنا بشكل أخص، على مقولات تدعي استفادتها من تجارب التاريخ الحديث، وتزعم بأن قيام الديمقراطية واستقرارها يقع على عاتق “الطبقة الوسطى” في المجتمعات الحديثة، وهو حجر الأساس في تنظيرات الليبراليين في سوريا، وغيرها من بلدان منطقتنا، أي أن قناعاتهم الراسخة مبنية على الدور المحوري للطبقة الوسطى، وهي الذريعة التي يقدمونها لتبرير سياساتهم وتموضعاتهم الدائمة التغيّر، والشديدة الانتهازية.
في مقاربة الطبقة الوسطى رأى مؤسسي الماركسية، ماركس وإنجلز، في منتصف القرن التاسع عشر أن التوسع الاجتماعي للإنتاج الصناعي سيؤدي بالضرورة إلى زوال الطبقة الوسطى. رغم أن النظام الرأسمالي كان في زمنهم في بدايات ازدهاره. ولأن مسار التطور الرأسمالي لم يتطابق تماماً مع أطروحة مؤسسي الماركسية، فقد إنهال الباحثون والمفكرون الليبراليون على مدى عقود بالتهكم على أطروحة ماركس المتعلقة بزوال الطبقة الوسطى؛ فهل حقاً أخطأ أهم مفكرين عرفهما العالم كانا قد درسا ديناميات النظام الرأسمالي بدقة علمية عميقة؟
في الواقع، تميّز القرن التاسع عشر بنهوض هائل للتصنيع الواسع، وشهد بالفعل تهشّم واضمحلال الطبقة الوسطى القديمة، أو ما يمكن توصيفه بالبورجوازية الصغيرة مثل أصحاب الورش والحرفيين وصغار الصناعيين وصغار الملّاك من الفلاحين وغيرهم. في هذا الجانب، تحققت بالفعل توقعات مؤسسي الماركسية، لاسيما في الدول الصناعية الكبرى، فقد أفسح زوال الطبقة الوسطى القديمة المجال لنشوء طبقة وسطى جديدة واسعة في فترة التصنيع الاجتماعي الواسع بين عامي 1920 و 1965.
تكوّنت بالفعل هذه الطبقة الوسطى الجديدة نتيجة التطور الهائل للصناعة، وبالأخص نتيجة الافتراق بين العمل العضلي والعمل الذهني، وما رافق ذلك من افتراق بين العمل العضلي الصرف قليل الأجر، والعمل العضلي والذهني الماهر الأعلى أجراً. هذه الشرائح من ذوي الأجور المتوسطة، والتي لا تمتلك تجانساً داخل نمط الإنتاج السائد، بخلاف الطبقة العاملة والبورجوازية الكبيرة، هي تلك الطبقة الوسطى التي تغنّى بها دعاة الليبرالية. رغم أنها تتكون من شرائح مائعة طبقياً، حيث يتأرجح مصيرها دوماً ما بين السقوط إلى الأسفل، أو الصعود في حالات نادرة إلى رحاب البورجوازية الكبيرة. ورغم رخاوة إنتمائها الطبقي إلا أن هذه الشرائح في الدول الصناعية فكّرت وتصرفت وكأنها طبقة متميزة عن الطبقتين الرئيسيتين اللتين تميزان كل مجتمع رأسمالي.
بيد أن هذا الحال لم يدم طويلاً، فقد شهد النظام الرأسمالي العالمي تحوّلات كبرى منذ بداية تسعينات القرن الماضي أهمها العولمة والمعلوماتية والتطور التقني المذهل، فبدأت هذه الطبقة الوسطى الجديدة بدورها تتعرض للاضمحلال والزوال مثل سابقتها القديمة. والمثال الأفضل لتوضيح ما جرى لها من تدهور هو الولايات المتحدة نفسها التي كانت “جنة ” هذه الطبقة الوسطى الجديدة، حيث تدهورت وانخفضت نسبتها من قوة العمل بين عامي 1960 و 1996 إلى أكثر من النصف، واليوم إلى أقل من 15 في المئة، ولم تجد لها منفذاً لتجنّب البطالة سوى قطاع الخدمات بأجور منخفضة، وأدنى حتى من أجور عمال الصناعة، وبذلك أصبح قطاع الخدمات يضم نحو 70 في المئة من قوة العمل في الولايات المتحدة. هذا الانحدار هو ما صار عليه مصير هذه الطبقة الوسطى المتهالكة على الصعيد العالمي، منذ منتصف تسعينات القرن الماضي.
نعود الآن إلى ليبراليينا الذين يعتقدون بطبقة وسطى وبدورها الجوهري في بناء الديمقراطية، في وقت تآكلت فيه هذه الطبقة الانتقالية إلى حدٍ كبير واضمحلت على نحو ظاهر، بل إن هذه الطبقة أصبحت في عدد من البلدان شبه مندثرة.
في حالة سوريا، انتعشت طبقة وسطى في العقد الأخير من القرن الماضي، ومنتصف العقد الاول من القرن الحالي، ورافق ذلك ازدهار الطبقة البورجوازية الكبيرة. هذه الطبقة الوسطى تعايشت مع بقايا البرجوازية الصغيرة من الفلاحين والحرفيين وأصحاب المشاريع الصغيرة وغيرها. لكن السياسات النيوليبرالية المتوحشة التي طبقها نظام الطغمة حينذاك أدت إلى إفقار واسع للسوريين، ولا سيما الكادحين، وإلى تآكل كبير للطبقة الوسطى بشكليها القديم والجديد. وكان تدهور الأوضاع الاقتصادية-الإجتماعية من الأسباب الرئيسية لاندلاع الثورة الشعبية في آذار/مارس 2011.
والحال أن الدمار الهائل الذي تعرّضت له البنية التحتية في البلاد، إلى جانب هجرة القسم الأعظم من الطبقة البورجوازية الكبيرة، ومعها بعض ما تبقى من الطبقة الوسطى، خلّف أغلبية سورية تعاني من الفقر المدقع.
لم تعد في سوريا طبقة وسطى تذكر، وانقسم المجتمع إلى طبقتين أساسيتين، غالبية من المأجورين والمُفقرين، وطغمة ضيقة من ناهبي السلطة والثروات، هذا هو الوضع الطبقي في سوريا، بايجاز شديد، دون أن نتطرق هنا إلى ما يعرف بجمعيات المجتمع المدني، فهي حقيقة ليست بأي حال تمثيلاً عن طبقة سورية وسطى، ذلك أنها تعمل في أغلبها خارج البلاد أو بتمويل من الخارج، كما أنها خارج دورة الاقتصاد الداخلي.
إذن، لا مكان يذكر في هذا الصراع الاجتماعي القاسي لطبقة لم تعد موجودة إلا في أذهان وأوهام المعارضة الليبرالية، فقد أصبحت مواقف هذه الأخيرة وتقلّباتها السياسية والسلوكية تشبه حالة الطبقة الشبحية التي تدعي التعبير عنها. فما بني على وهم، لا يولّد إلا الأوهام و لن يؤدي إلّا لمراكمة الفشل.