كانت خلافة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، سابقاً تضم سكاناً يبلغ عددهم عشرة ملايين نسمة داخل حدودها التي امتدت إلى سوريا والعراق اللتان تشملان مدناً رئيسية وبلدات وحقول نفط ومصانع وسدود، وقد وصل حجمها تقريباً حجم بريطانيا.
وأصبح “داعش” من الجانب التكتيكي والاستراتيجي مجرّد ظل لما كان عليه في السابق، ولكنه لا يزال يشكّل قوّة هامة. وهناك تصوّرٌ كبيرٌ بين المحلّلين الغربيّين بأنّ الدّولة الإسلاميّة لا تشكّل أي تهديدٍ كبير، على الرّغم من أنّ دولة الخلافة قد فقدت بريقها ولكن لا يزال التنظيم المتطرف يضم آلاف المقاتلين ضمن صفوفه في سوريا.
ومنذ سقوط الرقة (العاصمة السابقة لخلافة الدولة الإسلامية المزعومة)، اعتمد التنظيم استراتيجية انسحاب مخططة للحفاظ على عناصره والانتقال بعيداً عن التمسك بالأراضي والانتقال إلى تمرد شامل في المستقبل القريب.
وعاد تنظيم “داعش” إلى جذوره منفذاً التمرد بنفس الطريقة التي اعتمدها في العراق في أوائل العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، حيث يستخدم التنظيم مجموعات صغيرة من عناصره المسلحين الذين يقودون دراجات نارية أو شاحنات صغيرة مستخدمين أسلحة أوتوماتيكية. وفي بعض الحالات، قد تكون لديهم بعض الأسلحة الثقيلة، ولكن في الغالب يقومون بشن هجمات الكر والفر باستمرار. ويقومون أحياناً بإطلاق النار عن بعد على دوريات عسكرية لتخويفهم أو منعهم من القيام بدوريات في مناطق معينة.
وعلى الرغم من انتهاء خلافته الإقليمية في عام 2019 ومقتل العديد من قادته منذ ذلك الحين، فقد أظهر تنظيم داعش مرونة كبيرة، فهو يستمر في تمرده بشكل نشط للغاية، خاصة في المناطق الريفية في سوريا. كما أن القيادة العليا للتنظيم لا تزال تعمل من الأراضي السورية، ويتضح ذلك من حقيقة مقتل الخلفاء الثلاثة في عمليات داخل سوريا وكان من المعتقد أنهم كانوا يتحركون بين حدود سوريا وتركيا بجهودٍ يائسة للحفاظ على عدم الكشف عن هويتهم.
يبدو حالياً أن قادة “داعش” يقدمون توجيهات واسعة النطاق بشكل أساسي من خلال رسائل عبر الإنترنت بدلاً من الإشراف على العمليات اليومية للتنظيم في سوريا. ويبدو أن التنظيم الآن يعمل على مستويين: الأول يتكون من النخبة الذين يعملون بتوجيهات القيادة ويقومون بتنفيذ هجمات معقدة، والثاني يتكون من الخلايا المنفردة والمتمركزة التي تقوم بتنفيذ هجمات أصغر وأكثر تكراراً، وكذلك تقوم بترويع الناس وجمع الأموال. ومن خلال اتباع هذا الأسلوب من العمل، يكون “داعش” قد ضمن شبكات اتصال وانتقال تربط مناطق البلاد المختلفة ويقوم بتكليف خلاياه أدواراً محددة في كل مكان وينظر إلى أنشطته في كل منطقة كتعزيز للأنشطة في المناطق الأخرى. ويستعد التنظيم لتحقيق هدف استعادة التحكم الواضح بالأراضي حالما سمحت الظروف بذلك.
قام تنظيم “داعش” بتقسيم الأراضي السورية إلى أربع مناطق مختلفة من النفوذ ويستخدم كل منطقة بطريقةٍ مميزة. ففي منطقة البادية التي يعتبرها قاعدةً خلفية لعملياته في سوريا، يقوم بتدريب معظم مجنديه الجدد. وفي الشمال الشرقي، يجمع الأموال ويخزن الإمدادات ويشن هجمات على قوات الأمن ودعاة التكنوقراطية والشخصيات القبلية لإضعاف ثقة العامة في الحكم المحلي. وفي الشمال والشمال الغربي، يحتفظ التنظيم بمخابئ لقادة من المستوى المتوسط وكبار القادة الذين يتمتعون بدرجة من عدم الكشف عن هويتهم بين مئات الآلاف من السوريين النازحين الذين يعيشون في مستوطنات مؤقتة.
وتصبح الحركات التمردية لـ”داعش” في وسط وشمال شرقي سوريا متداخلة بشكل خاص. ويقوم التنظيم بنقل الرجال والمعدات بين المناطق التي يسيطر عليها النظام وقوات سوريا الديمقراطية اعتماداً على أهدافه المتغيرة واحتياجاته اللوجستية ونقاط ضعف خصومه في كل منطقة. ويبدو أنه يتم التنسيق لمثل هذه التحركات بين القادة المركزيين الإقليميين وقادة المنطقة.
هناك عشرة آلاف مقاتل وقائد من التنظيم محتجزين في السجون في سوريا، حيث يتم احتجاز معظمهم في سجون مؤقتة تديرها قوات سوريا الديمقراطية التي تعاني من موارد محدودة. وينظر تنظيم “داعش” إلى هذا كفرصة جيدة لتعزيز صفوفه المنهكة من خلال إطلاق سراح أعضاءه ذوي الخبرة من هذه المعتقلات. وفي كانون الثاني/يناير من عام 2022، شن مقاتلو “داعش” هجوماً جريئاً على سجن في الحسكة بشمال شرقي سوريا لإطلاق سراح رفاقهم، حيث فر المئات منهم بحسب التقارير، ولقي أكثر من خمسمئة شخص مصرعهم، بما في ذلك أعضاء من قوات سوريا الديمقراطية الذين استعادوا في نهاية المطاف السيطرة على السجن، وقد طالبت قوات سوريا الديمقراطية عدة مرات بضرورة توفير موارد كافية على الأرض للحفاظ على الآلاف من المعتقلين المؤيدين لـ”داعش” محتجزين لديها.
ويضاف إلى هذه المصاعب تهديد اقتحام تركيا لشمال شرقي سوريا، حيث يشكل تهديد الاقتحام التركي للمناطق الكردية في سوريا خطراً جدياً فيما يتعلق بتصاعد الأنشطة المحتملة للتنظيم في المنطقة. سيؤدي الاقتحام إن حصل إلى إرباك الدفاعات الكردية، مما يجبر قوات سوريا الديمقراطية التي تتألف بشكلٍ أساسي من القوات الكردية على صرف انتباهها ومواردها بعيداً عن عمليات مكافحة “داعش” نحو مواجهة القوات التركية الغازية. ولو حدث احتلال تركي فسيوفر ذلك لـ”داعش” فرصة ذهبية لإعادة بناء قوته من خلال تنظيم هجمات إضافية على السجون والاستفادة من الفوضى الجيوسياسية لتنفيذ هجمات في المنطقة.
ولمواجهة الخصوم المتكيفين تكتيكياً مثل “داعش”، يجب أن يكون النهج هجيناً، وللقضاء تماماً على التنظيم ينبغي التّركيز على ثلاثة أمور رئيسية: أولاً، الهزيمة العسكرية التي ستطرد “داعش” من آخر جيوبه المتبقية في شرقي سوريا. ثانياً، يجب التوصل إلى تسوية سياسية تحقق الاستقرار. وأخيراً والأهم هو إنهاء الفكر المتطرف للتنظيم بحيث لا يمكنه جذب مقاتلين جدد وموارد بعد الآن. ولا يزال الفكر السام لـ”داعش” قادراً على التأثير على جيل بأكمله، لذا ينبغي التركيز على استئصاله من جذوره. وتمثل الهزيمة الأيديولوجية مهمةً أصعب بكثير لأن حملات مكافحة التطرف تتطلب الصبر والمرونة، ولكن هذه التدابير تقدم حلولاً طويلة الأمد حيث تتناول الأسباب الجذرية للأيديولوجيات المتطرفة.