ثمة مفارقة، وربما الأصح القول أنه تفارق، بين هوية الدولة السورية بوصفه نظاما جمهورياً على ما يقوله دستورها، وبين طبيعة النظام الحاكم بوصفه نظام عائلياً ضيقاً أقرب للملكية منه إلى النظام الجمهوري. هذه المفارقة أدت إلى رواج مصطلح “جملكي” (الجهورية الملكية) الذي شاع في أوساط المعارضة قبل ثورة 2011.
واقع الحال يشير إلى أن النظام الحاكم في دمشق يحمل سمات الحكم الملكي المُطلق، والملكية المقصودة هنا هي الملكية غير الدستورية بمعنى أن القوانين والقرارات تخضع لمشيئة الملك، كما أن النظام لا يحمل أي سمة للحكم الجمهوري خلا الاسم، ولعل مسألة التوريث تشي بما يراد قوله هنا؛ فقبل وفاة حافظ الأسد كان المرشح للرئاسة ابنه باسل، وعند وفاة الأخير بحادث سيارة عام 1994، تم اختيار الابن الثاني. وبالفعل لا يوجد هكذا نوع من تداول للسلطة إلا في الأنظمة الملكية، وبطبيعة الحال ثمة استثناءات قليلة أخرى كما في حالة كوريا الشمالية وحكمها السلاليّ.
القول إن النظام ملكي، يعني أن العائلة المالكة، علاوة على الملك، تضم كتلة من الأميرات والأمراء، وهذا ما عاشه السوريون من تطاول وسلوك متعالٍ لهذه المنظومة على البشر والقوانين لسلسلة طويلة من العقود، استباحوا خلالها، وما يزالون، البشر والحجر وسطوا حتى على مؤسسات دولتهم وثروات البلاد. ويضاف إلى هذه الحلقة الضيقة من العائلة “الملكية” طبقة من “النبلاء” المقربين منها، إذ تُقرّب هذه الطبقة الناس منها، أو تسحقهم، حسب مصالح النظام أو وفق مزاجه. ولعل الشكل السافر لهذا الحكم تفاقمت طبيعته ونتائجه خلال العقد الأخير.
إن مقاربة النظام السوري بوصفه نظاماً تتحكم به آليات النظام الملكي المطلق، نقصد من خلاله تقديم تعريف سياسي أدق لا يقتصر على التشابه فحسب؛ فلئن كان هذا النظام هو نظام طبقة ضيقة تستأثر بالحكم والسياسة والاقتصاد وحياة السوريين بكل أبعادها، فإنه يمكن النظر إليه بوصفه نظام طغمة “أوليغارشي” أيضاً، وهذا التحليل لطبيعة النظام وتعريفه سيسهل فهم دينامياته وسياساته وردود أفعاله.
في الجانب الآخر، ليس القمع والعنف هما الوسيلتان الوحيدتان اللتين يلجأ إليهما النظام للسيطرة على الناس، حيث أن الأوليغارشية، التي يتمحور حولها نظام الحاكم الفرد وعائلته والمقربين منه، تمتلك وسيلة قمع أخرى شديدة الأهمية والفعالية للاستحواذ على قبول الناس وهي الإيديولوجيا، فكل ما تردده أجهزة النظام الايديولوجية من ترويج لخصوصية “القائد” وعبقريته الموروثة و”انتصاراته” على كل أعدائه، يدخل في حسابات إضفاء القدسية على الملك، والعائلة “الملكية” تالياً.
هذا البعد الرمزي/الإيديولوجي يجعل أي مساس بالحاكم ولو بكلمة -وهو ما اختبره السوريون لعقود من الزمن- جريمة لا تغتفر ويعاقب مرتكبها بأقسى العقوبات، وتصنّف على أنها “جريمة” أبشع من جريمة الخيانة، وهي بالتالي أقرب إلى “جريمة المس بالذات الإلهية”، ويمكن هنا القول تندراً أنها “جريمة المس بالذات الرئاسية”.
وعليه، فإن هذه الحال استمرت منذ عقود من الزمن إلى يومنا هذا. وما كانت ثورة آذار 2011 في أحد مستوياتها إلا تعبيراً أوّلياً عن رفض قطاعات واسعة من الشعب السوري لصيغة الحكم الأوليغارشية هذه.
والحال، فإن عقداً ونيّف من الثورة والحرب والدمار والدماء وتقسيم سوريا، لم يغيّر شيئاً من طبيعة النظام، المذكورة أعلاه، وفي مناطق سيطرته على الأقل. بل ربما فاقم كل ما حصل منذ ذلك الحين من نظام طغمة قمعي عصي على الإصلاح.
مما سبق ذكره، فإن مقاومة هكذا نظام تحتاج إلى أمرين: الأول هو القدرة، بالتجربة والوعي، على التخلص من هيمنته الإيديولوجية، والثاني هو امتلاك الجرأة على مواجهة قمعه وعنفه المادي. لذلك فإن أبسط أشكال مقاومة هذا النظام، في هذين الصعيدين، هو عمل عظيم يحتاج كل الدعم والتضامن، والعمل على مراكمته وتوحيده بالعمل الجماعي المنظم، لكي لا يتبدد كالكثير من الأفعال الفردية.
في الأثناء ثمة مقاطع فيديو تناولت سياسات النظام وإفقاره واضطهاده للناس، وهي تكثر من الانتقاد الشديد له، صدرت عن عدد من الأشخاص في مناطق سيطرة النظام، مثل لمى عباس وبشار برهوم وغيرهما. فيما تدرجت المواقف بين “المعارضين” من الاستخفاف بهكذا مواقف، أو إدانتها لأنها صمتت سنوات طويلة على ممارسات النظام، أو أنها مواقف نابعة عن موالين لا قيمة لها. فيما أغلب ردود الفعل السلبية على هذه الفيديوهات جاءت من ” معارضين” أصبحوا في أحضان بلدان اللجوء، ليصبح العمل السياسي بالنسبة لهم مقتصراً على الخارج، وبالاتكاء على الكنبات وكتابة التفاهات “الثورية” على وسائل التواصل الاجتماعي. وهي نفس ردود الفعل السلبية التي واجهها الحراك المدني الأخير في السويداء.
في حين أننا نرى، أن هنالك حزمة من المؤشرات الملموسة على تفاقم الغضب والاحتقان الشعبي في وجه نظام الطغمة الحاكم. واحدة منها هذه الجرأة النقدية التي نشهدها من أوساط كانت موالية له، أو مغيّبة الوعي إلى وقت قريب. واحد من هذه المؤشرات المهمة هي هذه الفيديوهات التي تفضح نظام الطغمة وسياساته التي يجرؤ عليها أناس يعيشون في قلب مناطق سيطرته، وبالصوت والصورة، والتي تتكرر فيها كلمات “أصبح الحال لا يطاق” و “لن نصمت بعد اليوم”. كما لا يقلل من أهمية هذه الاحتجاجات أن الفاعلين فيها هم من الموالاة، ذلك أن العكس هو الصحيح، إذ أنها تعبّر عن تآكلٍ، أو لنقل اضمحلال، القاعدة الاجتماعية التي يستند عليها النظام.
إن تراكم هذه الاحتجاجات المتعددة الأشكال وتناميها، هي التي ستؤدي، في لحظة قد لا نتوقعها، إلى تفجر الغضب الشعبي مجدداً، في وجه نظام الطغمة الحاكم، وهكذا فمن “لا شيء تصبح الجماهير كل شيء”.