ما وراء التقارب التركي والغربي وتبعياته على علاقة أنقرة وموسكو

أربيل- نورث برس

في أول تحرك دولي له بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية، عاد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على ما يبدو أكثر وداً مع الحلف الذي هو عضو فيه، حيث اتضح ذلك على الأقل في ثلاثة مواقف مثيرة للاهتمام، لتدفع بتساؤلات حول ماهية مستقبل تركيا ما بين مكانتها في الحلف الاستراتيجي مع الغرب، ومصالحها المتجذرة مع روسيا.

وكثرت التحليلات عما إذا بدأت تركيا بالابتعاد عن روسيا والاضطرار أخيراً إلى إنهاء الانحياز، والتوجه إلى الغرب حيث مكانها الاستراتيجي في حلف الناتو منذ ما يقرب 70 عاماً، وهي تتخذ ترتيب ثاني أكبر قوة داخل المعسكر.

يأتي ذلك بعد فترة طويلة من بقائها بعيدةً إلى حد ما عن مصالح السرب، تخللها تبادل تجاري بين أنقرة وموسكو، وشراء تركيا منظومة إس400 الروسية وما جمع البلدين من تفاهمات في الساحة السورية نموذجا، في وقت كانت ولازالت روسيا تواجه عقوبات الدول الأوروبية والولايات المتحدة.

وشهدت قمة الناتو الأخيرة في العاصمة الليتوانية الأسبوع الفائت، انزياح تركيا عن طريق السويد الراغبة بالانضمام إلى الحلف أسوةً بجارتها فنلندا، علاوة على ذلك ترحيب ستوكهولم بأنقرة لاستئناف مفاوضات ضمها إلى الاتحاد الأوروبي، إلى جانب ذلك، أثار مسؤولون كبار في الولايات المتحدة مجدداً صفقة منح تركيا طائرات إف 16.

وكانت تركيا تتخذ خطوات حذرة نسبياً خلال فترة الحرب ضد أوكرانيا، كانت غير مرغوب بها بالنسبة للحلف، إضافة إلى خلافات مع الولايات المتحدة، وتوترات مع اليونان، وكذلك مع الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بقضايا اللاجئين وآخرى حقوقية.

هذا وصعد فريق حزب العدالة والتنمية الحاكم خطابه الموجه ضد الغرب، وبدت تركيا في أصعب مراحلها خلال الانتخابات التركية في أيار/مايو الفائت، حين أعرب بوتين عن دعمه لأردوغان، بينما اتهم الأخير وفريقه الانتخابي لأكثر من مرة الولايات المتحدة بدعم المعارضة.

ثلاث خطوات تركية

على هامش جولته في أوروبا قبيل انعقاد قمة الناتو، أعلن الرئيس التركي بشكل منفصل عن ثلاثة إجراءات توقع الكثيرون أنها ستُغضب روسيا، الأول كان تصريحه خلال لقائه نظيره الأوكراني فولوديمير زيلنسكي، أنه يدعم دخول كييف لحلف الناتو.

وجاء حديثه بالرغم من أن فكرة انضمام أوكرانيا إلى الحلف كانت السبب المباشر لاندلاع الحرب الروسية الأوكرانية.

أما الخطوة الأخرى التي سبقتها هي قيام أنقرة بالإفراج عن قادة كتيبة “آزوف” لأوكرانيا، رغم الاتفاق القاضي ببقائهم في تركيا حتى انتهاء الحرب الروسية الأوكرانية.

وختمت تركيا إجراءاتها الملفتة، بكسر حالة عدم اليقين بينها وبين التكتل العسكري (الناتو)، عبر الإعلان عن استعدادها للموافقة على انضمام السويد، وذلك بعد أشهر طويلة من المفاوضات والشروط التي فرضتها على ستوكهولم، على خلفية ما تعتبره أنقرة تساهل سويدي مع المعارضة التركية وخاصة المتمثلة بالكرد المقيمين في البلد الاسكندافي.

يقول الكاتب اللبناني والباحث المتخصص في الشؤون التركية الدكتور محمد نور الدين، إن التوازن القائم إلى حد ما في الموقف التركي فيما يتعلق بالحرب الأوكرانية، أراد أردوغان منه عدم إبقاء تركيا تحت الضغوط الخارجية ولاسيما على الاقتصاد التركي وتبعيات ذلك.

وكانت تركيا واضحة في انحيازها الأخير من خلال قيامها بالإجراءات الثلاثة الأبرز، وهي تصريحه مع زيلنسكي برغبته في ضم أوكرانيا إلى الناتو، والسماح لقادة كتيبة ازوف بالمغادرة، كذلك السماح للسويد بالانضمام إلى الحلف، وفق ما أشار إليه الباحث.

أما بخصوص الحديث عن مفاوضات ضم تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، يرى نور الدين، أنها “ليست مسألة جادة بما فيه الكفاية”، لأنه “لا أردوغان يرغب بذلك، ولا الاتحاد الأوروبي يريد تركيا عضواً في الاتحاد”، على حد تعبيره.

لكن هذه المواقف أوضحت ما يمكن اعتباره “ضعفاً روسياً في مرحلة تشهد تباطؤاً عسكرياً روسياً في جنوب شرق أوكرانيا، وأيضاً ما شهده البلد من أزمة تمرد قادها قائد مجموعة فاغنر.”

وقال الباحث اللبناني: “لذا، حتى لو كانت المواقف التركية الأخيرة تزعج روسيا ضمنياً، فإنها لا ترغب بالرد، باعتبار أن بينها وبين تركيا مصالح مشتركة.”

وتأتي المواقف التركية الأخيرة في سياق استمرار المصالحة مع دول الخليج مثل السعودية والإمارات، كذلك فتح صفحة جديدة مع مصر وكذلك الغرب.

وبرأي “نور الدين”، فإن كل ذلك يُفهم على أنه “خطوة ترجيح لصالح المعسكر الغربي ضد روسيا أو إيران، وهذا ما قد يدفع تركيا إلى أن تتموضع من جديد، كما كان حالها قبل 2016، كعضو فاعل في الحلف الناتو”.

وهذا لا يعني أن أنقرة مستعدة “لكسر الجرة” مع موسكو أو الوقوف ضدها، بحسب الباحث في الشأن التركي، إذ هي الآن في تحدٍ مع نفسها للحفاظ على ما كسبته من العلاقات المستجدة مع روسيا وإيران.

وأشار “نور الدين” إلى أنه في المستقبل القريب ستظهر الترجمة العملية للتحولات التركية.

ويرى الباحث الدكتور سعود الشُرُفات، وهو مدير مركز دراسات وبحوث العولمة والإرهاب في عمان، أن تركيا هي بالأساس عضو في الناتو ولديها مصالح على المدى الطويل مع الغرب ولذلك ومن الصعب التفكير بأنها ستكون حليفاً قوياً ويعتمد عليه لروسيا حالياً.

وفي وجهة نظر تختلف عما قالها “نور الدين”، يعتقد الباحث الأردني سعود الشرفات، أن عين تركيا لا زالت مفتوحة على الاتحاد الأوروبي وتسعى جاهدة إلى ذلك.

ولفت إلى أن إحدى المؤشرات الجديدة على توجهات تركيا نحو الغرب، هي تشكيلة حكومة أردوغان الجديدة ذات التوجهات الغربية كما يؤكد الخبراء في الشأن التركي خاصة في الشق الاقتصادي الذي يسعى إلى تحرير التجارة وجلب الاستثمارات الخارجية حيث يعكس الفريق الاقتصادي توجه تركيا للغرب خاصة أنه يعمل للخر وج بالبلاد من آثار الزلزال المدمر.

وقال “الشرفات” إن توجهات السياسة التركية منذ وصول أردوغان لسدة الحكم هي باختصار “السياسية الواقعية” و”البرغماتية” لتحقيق مصالحها القومية، مستشهداً بما اتخذته تركيا مؤخراً من خطوات على هامش قمة الناتو.

لكن ومع ذلك، يرى الباحث الأردني أن أردوغان سيُبقي على “شعرة معاوية” مع روسيا أيضاً، لتحقيق مصالحه السياسية والاقتصادية ودوره كوسيط وجسر عبور دولي – ربما- بين الغرب وروسيا.

وأضاف أن هذا ما قد يعطي تركيا مجالاً للمناورة السياسية  مع الغرب في المستقبل.

ومع اختلاف وجهات النظر، يجمع باحثون أن خطوات تركيا ليست مثيرة للجدل أو مفاجئة، باعتبار أنه لا يجب نسيان انتماء تركيا الرئيسي للحلف الأطلسي وهذا هو العامل الرئيسي الذي يضع الخطوط العريضة للسياسية الخارجية التركية.

وبعد فوز أردوغان في الانتخابات التركية السابقة “بفضل التكتلات القومية الدينية من جهة والمال الخليجي من جهة أخرى”، قال “نور الدين” إن الرئيس التركي “أخذ دروساً من السنوات القليلة الماضية وقرر ألا يستمر بالسياسية الخارجية السابقة، ما يعني البقاء في توازن معقول بين معكسر الحلف الأطلسي والمعسكر الروسي ومن معه”.

وتحدث “نور الدين” في خلفيات العلاقات التركية، حيث واجه أردوغان خلال كل السنوات التي تلت 2016 وصولأً إلى الانتخابات الأخيرة، أزمة اقتصادية كبيرة شملت انهياراً لعملة بلاده، وجميع هذه العوامل كانت تشكل خطراً على فرصه للفوز بالرئاسة.

وقال إن تركيا قررت الانفتاح مع دول كانت على خصام معها مثل السعودية والإمارات وإسرائيل ومصر وإيران، وقد بدأ هذا في أواخر 2020.

والمرام التركي في المصالحة مع دول الخليج هو جميع المال، حيث كانت المقايضة واضحة مع السعودية مقابل ملف الخاشقجي، ومع الإمارات مقابل ملف الاتهام بالتورط في الانقلاب، كذلك مع إسرائيل مقابل التخلي عن مواقفه تجاه الفصائل الفلسطينية، بحسب “نور الدين”.

أثرها على سوريا

أما بالنسبة لسوريا، فقد تأخر الحديث عن المصالحة إلى حين حلول صيف 2022، وبدأت منذ حينها سلسلة لقاءات على مستوى الدفاع والخارجية بين تركيا والحكومة السورية.

وقال “نور الدين” إن بين سوريا وتركيا عدة ملفات شائكة أبرزها “ملف الكرد، والأمن الحدودي واتفاقية أضنة، واللاجئين ومناطق سيطرة تركيا ومشاريع التغيير الديموغرافي ودعم فصائل مسلحة ونوفذها في شمال غربي البلاد.”

وبقاء جميع تل الملفات آنفة الذكر من غير حل، يصب في مصلحة الرئيس التركي، بحسب “نور الدين”. وأضاف: “وقد اتضح ذلك حين لم تقدم تركيا تنازلات ملموسة في الاجتماعات السابقة مع الجانب السوري.”

وأردف القول: “بينما ترى تركيا مصلحتها دون حل المشكلات، فإن الولايات المتحدة تعارض التطبيع بين أنقرة ودمشق، ما يعني أن تركيا في نهاية المطاف لن تقوم بخطوة تغضب الولايات المتحدة مهما كانت مقربة من روسيا وإيران”.

وقال الباحث في الشأن التركي، إن أردوغان سيتمسك أكثر بموقفه تجاه سوريا، وسيبقى موازياً للموقف الأميركي تجاه دمشق، وسيتمر في موقف عدم المصالحة بل سيزداد تشدداً وتصلباً إذا ما عُقدت اجتماعات لاحقة بين الطرفين بل من المتوقع أن تقوم تركيا برفع سقف مطالبها.

إعداد وتحرير: هوزان زبير