ازعم أنه لم يكن مفاجئاً لي ما ورد في البيان الصادر يوم الأربعاء في21/6/2023 عن الجولة العشرين لاجتماعات كل من روسيا وتركيا وإيران وسوريا فيما بات يعرف بمسار أستانا، من مواقف متشددة تجاه القضية الكردية في سوريا، إذ لطالما نبهت إلى ذلك في نشاطاتي العامة السياسية والثقافية، وفي حواراتي مع الإخوة الكرد السوريين؛ فتركيا تحسب المسألة الكردية في سوريا مسألة أمن قومي، وهو زعم لا أساس واقعي له.
من المعلوم أن تركيا قد تدخّلت في الأزمة السورية منذ البداية بقوة وكثافة بهدف خلق مجال حيوي إقليمي لها بغطاء إسلامي. لهذا الغرض عملت على حشد جهاديين متطرّفين من مختلف دول العالم بالتعاون مع دول عربية وأجنبية، وساهمت في تدريبهم وتسليحهم وتأمين عبورهم إلى سوريا من أراضيها. غير أن مسار الأزمة السورية وتحوّلاتها، وخصوصاً بعد التدخل الروسي المسلح فيها، وتشكيل التحالف الدولي لمحاربة داعش برز معطى جديد لم يكن بحسبان تركيا يتمثل في القوة السياسية والعسكرية للكرد السوريين وسيطرتهم على مساحات واسعة من سوريا إلى الشرق والشمال من نهر الفرات. وإذ أدركت أن مشروعها لإنشاء مجال حيوي لها في سوريا قد فشل، فهي تعمد للاستفادة من وجودها المسلح في المناطق الشمالية الغربية في أي حل سياسي محتمل للأزمة السورية بغية إزالة ما تسميه بالخطر الكردي الوجودي على أمنها في سوريا. إن اجتياح عفرين ورأس العين وتل أبيض، والعدوان التركي المستمر على المواطنين الكرد السوريين هو من ضمن إجراءاتها على هذا الصعيد، لكنه إجراء غير كافٍ، خصوصاً في ظل النفوذ الأمريكي في المنطقة.
وإذ صح ما ذهبنا إليه من تحليل لبعض المعطيات، وفي مقدمتها فشل مشروع تركيا الإخواني لتأمين مجال حيوي لها يغنيها بعض الشيء عن الاتحاد الأوروبي الذي أوصد أبوابه بوجهها، بدأت القيادة التركية بمراجعة شاملة لعلاقاتها الإقليمية والعربية باتجاه تحقيق ما تسميه صفر مشاكل معها. ولئن بدأت بتطبيع علاقاتها مع السعودية ودول الخليج عموماً ومع مصر، فإنها أدركت أن تطبيع العلاقات مع سوريا يحظى بأهمية خاصة ليس فقط لأنه بات مطلباً عربياً بعد عودة دمشق إلى الجامعة العربية، بل لحل مسألة اللاجئين السوريين التي باتت تضغط على المجتمع التركي، والاستفادة من كل ذلك لإنعاش اقتصادها المتعثّر. وفي هذا السياق وضمنه لا يغيب بطبيعة الحال عن توجهاتها السياسية المستجدة القضاء على ما تزعم أنه خطر كردي سوري على أمنها. لكل ذلك لم يكن غريباً ولا مفاجئاً أن تضغط على شركائها في اجتماعات أستانا لاتخاذ مواقف متشددة تجاه الكرد السوريين وإدارتهم الذاتية.
وبالعودة إلى بيان أستانا نقرأ في الفقرة الرابعة منه عزم الدول المعنية على “مكافحة الإرهاب بجميع أشكاله ومظاهره، ومجابهة الأجندات الانفصالية الهادفة إلى تقويض سيادة سوريا وسلامة أراضيها، والتي تهدد الأمن القومي لدول الإقليم المجاورة”. من المعلوم أن تركيا تحسب القوات العسكرية والتنظيمات السياسية الكردية، بصورة خاصة قوات سوريا الديمقراطية، ومجلس سوريا الديمقراطية، تنظيمات “إرهابية” متناسية دورها في دعم الإرهاب الإسلامي السياسي والعسكري بكل أشكاله الإخوانية والجهادية والسلفية. ثم عن أية “أجندات انفصالية” يتحدث البيان، فأغلب السوريين يدركون جيداً أن الكرد السوريين وطنيون بامتياز، ولم يطالبوا يوماً بالانفصال عن سوريا، بل على العكس كانوا دائماً يؤكدون على وحدة سوريا أرضاً وشعباً. وإذا كان الولاء السياسي والفكري لكرد سوريين للزعيم الكردي التركي أوجلان يشكل خطراً أمنياً على تركيا، فهو خطر لا يمكن إزالته إلا بالقضاء على أغلبية الشعب الكردي في سوريا، وفي تركيا أيضاً. إنه لمن الهراء السياسي والفكري الزعم بأن تبني أو تأييد أفكار أي زعيم سياسي أو مفكر بغض النظر عن جنسيته يشكل خطراً أمنياً؟!
في الفقرة السادسة من البيان يرد أن الدول المعنية، وبعد مناقشة الوضع في “شمال شرقي الجمهورية العربية السورية”، اتفقوا على أن تحقيق “الاستقرار والأمن المستدامين في هذه المنطقة مرتبط بالحفاظ على سيادة سوريا وسلامة أراضيها”. هذا القول صحيح تماماً، لكن السؤال من يهدد سيادة سوريا على أراضيها؟ يجيب البيان بأن خلق الوقائع على الأرض من قبيل السعي للاعتراف بـ “الحكم الذاتي” (المقصود الإدارة الذاتية) عن طريق “المبادرات غير الشرعية “(في إشارة إلى مبادرة الإدارة الذاتية للحل في سورية التي أطلقتها في 18/4/2023) هو هذا الخطر. لذلك لكله يؤكد المجتمعون عزمهم على مجابهة ” الأجندات الانفصالية “(كذا) الرامية لتقويض وحدة سوريا، والتي “تهدد الأمن القومي للدول المجاورة” (المقصود تركيا).
إن التأكيد على “وحدة سوريا” من كليشيهات جميع البيانات التي صدرت عن اجتماعات أستانا، وهي عملياً ليست المقصودة لذاتها، بل “محاربة الأجندات الانفصالية” التي تهدد “الأمن القومي ” لبعض دول الجوار (المقصود تركيا)، ولا يمكن قبول “المحاولات غير الشرعية لإقامة ما يسمى الإدارة الذاتية بذريعة مكافحة الإرهاب”، بحسب وكالة الأناضول التركية نقلاً عن وزير خارجية تركيا.