سوريا تخسر أبناءها.. الهجرة نجاة وهروب من أزمة تقارب الجحيم

ليلى الغريب ـ دمشق

لم تعد كلمة “هجرة” كافية لوصف حالة النزوح المستمر من سوريا منذ أكثر من عقد. إنه “الهروب” أو “النجاة”.. هكذا يقول كثير ممن دفعتهم الأسباب للهجرة من بلد لم يعد قادراً على توفير أبسط متطلبات الحياة، وصارت الحياة فيه صراعاً يومياً حتى مع لقمة الخبز بالنسبة لمعظم مواطنيه الذين يعيش نحو 90% منهم تحت خط الفقر، حسب إحصاءات أممية.

تعددت الأسباب التي تدفع إلى الهجرة من سوريا، ولم تعد تقتصر على حالة “تحسين” متطلبات الحياة، بل هي صارت أقرب إلى ضمان الاستمرار في الحياة. لتكون النتائج خسارة سوريا لكوادرها الشابة وأصحاب الخبرات والمؤهلات العلمية والحرفية.

أضخم أزمة

تمثل سوريا أضخم أزمة نزوح في العالم منذ الحرب العالمية الثانية، حسب وصف الأمم المتحدة لآثار الأزمة المستمرة في البلاد، وحسب المنظمة الدولية فإن أكثر من نصف السكان اضطروا للنزوح أو الهجرة، سواء خارج البلاد أو داخلها، وتقدر عددهم بنحو 13 مليون شخص.

وإن كانت ظروف الحرب أجبرت كثيرين على الفرار أملاً بالنجاة، فإن توقف حدة المعارك لم يؤد إلى توقف الهجرة، إذ أن تلك الظاهرة ما زالت مستمرة مع تزايد انهيار الاقتصاد، حتى أن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش، قال قبل أيام إن “معاناة السوريين تتحدى الوصف”.

وأضاف أن 9 من كل 10 سوريين يعيشون تحت خط الفقر، وإن أكثر من 15 مليون سوري، أي 70% من إجمالي عدد السكان، يحتاجون إلى المساعدات الإنسانية.

ما الذي يبقيهم؟

ما الذي يدفع السوريين للهجرة؟ سؤال أجاب عليه سامي القادري، الذي ترك بلده عبر رحلة خطيرة قادته إلى ألمانيا قبل سنوات بسؤال معاكس، “ما الذي لا يدفع السوريين إلى الهجرة؟.. لا أمان، لا كهرباء، لا عمل.. بل حتى الحصول على الخبز صار صعباً”.

ويضيف “القادري” الذي باع بيته، وسيارته ليتمكن من تغطية نفقات الهجرة، أو “الهروب” كما يسميه لنورث برس: “أعتقد أن العائق المادي هو الذي يمنع من إفراغ سوريا من سكانها، هناك كثيرون يحاولون مغادرة سوريا لكن تكاليف المغادرة هي ما تمنع ذلك، بالدرجة الأولى، إضافة إلى شروط الاستضافة في البلدان الأخرى”.

يقول “القادري” إنه كان أحد الذين غامروا بحياتهم عبر الهجرة بواسطة ما يُعرف بـ”البلم”، ويروي تفاصيل رحلة خطيرة قادته من سوريا إلى لبنان ثم تركيا ثم عبر البحر بذلك القارب المطاطي الذي “يقوده” أحد المهاجرين، أو الهاربين من جحيم الحياة، وصولاً إلى اليونان، لتبدأ رحلة أخرى أقل خطورة.

ميساء واحدة من اللواتي خضن تلك التجربة القاسية، وتروي كيف أنها “هربت” مع زوجها، وطفلهما الذي لم يكن قد تجاوز الرابعة من عمره، تقول: “لن أنسى أبداً تلك الساعات التي خضناها في البحر، والخوف الحقيقي من الغرق في كل لحظة، والشعور بأنني قد ارتكبت خطأ خاصة حين كنت أرى الخوف في عيني صغيري، لكنني كنت أثق أيضاً أنني أنقذه من احتمال موت حقيقي كان يتربص بنا في كل يوم”.

من جحيم إلى جحيم

لكن الخروج من سوريا لا يعني الخلاص دوماً، خاصة بالنسبة لأولئك الذين لم يقدروا على الوصول إلى بلدان توفر الحد الأدنى للاجئين.

عمر الذي وصل الإمارات منذ نحو شهرين، كان يعمل في لبنان أجيراً في مطعم منذ العاشرة صباحاً وحتى الثانية عشرة ليلاً، مقابل 150 دولاراً في الشهر، وهو مبلغ ينقص عن أجرة البيت بنحو 50 دولاراً، لذلك كان على أخويه ووالده أن يعملوا، مقابل أجور بالكاد تكفيهم كي يستمروا في الحياة.

يبحث عمر عن عمل منذ نحو شهرين، كل “الفرص” التي أتيحت له كانت بحدود ألف درهم في الشهر، نحو 370 دولاراً، مقابل عمل يمتد لعشر ساعات في اليوم، لكن من وافق على أن يشتغل لديه كان يشترط أن يكون حاصلاً على إقامة في الدولة، وهو ما ليس ممكناً دون عمل أو شركة تقبل منح الإقامة مقابل مبلغ كبير جداً بالنسبة لعمر.

يقضي عمر معظم لياليه لدى معارف وأصدقاء أحوالهم ليست أفضل من حاله بكثير، إذ يسكنون داخل غرف صغيرة بالكاد تتسع لسرير واحد، وهي طريقة في الإيجار وجدت في الإمارات بعدما تزايدت أعداد القادمين إليها الهاربين من بلادهم.

وبسبب كل ذلك، يقول عمر: “لو كان لدينا بيت في سوريا سنعود إليها مهما كانت الظروف، فليس هناك أسوأ مما نحن فيه”.

لا أحد يعود.. الكل يغادر

سوري آخر هاجر إلى ألمانيا منذ نحو 5 أعوام، يقول لنورث برس، بنوع من التندر، إنه كان يبحث منذ فترة عن أحد سيذهب إلى سوريا، كي يرسل معه أمانة لأهله هناك، لكنه لم يجد، ويعلق على ذلك بالقول: “لا أحد يعود إلى سوريا، الكل يغادرها”.

ويتساءل: “ما الذي يمكن أن يجذب السوريين الذين غادروا إلى بلادهم؟ هناك يتاجرون حتى في الأزمة الإنسانية، يبيعون جوازات السفر بأعلى الأسعار عالمياً، يتاجرون بالمحروقات، وحتى الخبز، ويخترعون ضرائب عجيبة، يفرضون ضرائب على أجهزة الموبايل تعادل ثمن الجهاز بل قد تزيد عن سعره، بمعنى أنهم يربحون أكثر من الشركة التي صنّعت الجهاز، ومؤخراً يمنعون الناس حتى من أبسط حق وهو الاستقالة”.

ويقول: “ما يمنع معظم من تبقى في سوريا اليوم من المغادرة هي تكاليف المغادرة، والتي تبدأ بتكلفة جواز السفر نفسه، الذي صار أغلى جواز في العالم من حيث السعر، لا القيمة. لو توافر المال اللازم لمعظم السوريين، لرأيت سوريا شبه فارغة”.

وحيداً في بلد يتفتت

تقول باحثة اجتماعية لنورث برس، إن حزمة من الأسباب اجتمعت طوال السنوات الماضية لتدفع السوريين إلى هجران بلدهم، منها أسباب أمنية، وأخرى سياسية، أو اقتصادية.

وتشير إلى تلك الحالة التي دفعت كثيراً من المهاجرين إلى خوض البحر، مع احتمال الغرق، بهدف المغادرة، لتقول إن أحداً لا يترك بلده بتلك الطريقة ما لم يكن الدافع أقوى بكثير، ويتعلق بالحياة في حد ذاتها، وهو ما يجعل المهاجر لا يجد فرقاً كبيراً بين الاحتمالات، فهناك خطر على الحياة، وهنا خطر كذلك.

موجات الهجرة أو حالات النزوح الجماعي من سوريا، كانت تكتسب طابعاً أمنياً وسياسياً مع بداية الأزمة، إذ كانت حروب المدن تشكل خطراً وجودياً على الجميع، ولاحقاً كان السبب الاقتصادي هو الأبرز، وهو الذي لا يقل خطورة، إذ أن تأمين متطلبات الحياة لم يعد ممكناً لدى كثير من الأسر، وهكذا كان من يختار الهجرة حتى لو مع المخاطرة إنما يفعل ذلك تجنباً لحالة موت بطيء.

وثمة عامل آخر يقف خلف تلك الظاهرة، هو انسداد الآفاق أمام الجميع وخاصة الشباب، إذ إن أي حل لتلك الأزمة ما زال يبدو بعيداً، وازدادت القناعة لدى كثيرين بأن تلك الأزمة تمضي في عكس اتجاهات الحل، إلى مزيد من التدهور، ودون أي بوادر حل.

مسبب للظاهرة

لكن أبرز تلك الأسباب كما تقول، هو ليس فقط تخلي الدولة عن مسؤولياتها، بل تحولها إلى أحد أسباب الظاهرة، فمؤسسات الدولة ووفقاً لتوجهات الحكومة، بدأت رفع أسعار وأجور خدماتها وسلعها إلى حدود كبيرة، بينما أبقت على الرواتب والأجور في حدودها الدنيا، بل إن تلك الرواتب تآكلت أضعاف المرات عما كانت عليه، في مقابل ارتفاع جنوني في الأسعار.

هكذا يجد السوري نفسه وحيداً في بلد يتفتت بالمعنى الجغرافي والسياسي والاقتصادي، فلا يبقى أمامه سوى أن يغادر، طبعاً إن استطاع ذلك إذ إن تلك المحاولة صارت مكلفة جداً، وهي تبدأ بما لا يقل عن مليون ليرة (يعادل تقريبا راتب موظف لمدة 8 أشهر)، ثمناً لجواز السفر.

وعن آثار الهجرة يقول مدير سابق في هيئة شؤن الأسرة لنورث برس إن الهجرة المتزايدة يجب أن تكون من أهم الملفات التي يجب أن تؤرق الحكومة، فالمجتمع السوري فقد وما يزال جزءا من خيرة المؤهلات والموارد البشرية، وخصوصا من الفئة العمرية التي تضم خريجي الجامعات ومن التخصصات العلمية.

وأكد أن نسبة كبار السن من عمر 65عاماً  وما بعد ارتفعت من 3 في المئة إلى 4.4 في المئة.

وأن الدراسات بينت أن الهجرة حفرت فجوات متعددة في بعض الفئات العمرية، خاصة الفئة العمرية لغاية 4 سنوات، وبعض الفئات النشطة اقتصادياً وانجابياً من 15-49 سنة.

تحرير: تيسير محمد