أوضاعنا في ضوء تجليات النظام الإقليمي الجديد

“لا يمكن بناء الجديد بأحجار القديم”. على وقع الصراع العالمي المحتدم، وتزعزع النظام العالمي القديم، الذي كانت تقوده الولايات المتحدة وحدها دون أي منازع آخر لهيمنتها، ومؤشرات بزوغ نظام عالمي جديد، أو بالأحرى نظام معدّل، للصين فيه دور رئيس، وتوفر هامش أكبر من السابق للأنظمة الاقليمية.

في هذا السياق، ومن نتائجه وفي ضوئه، جرت القمة العربية في السعودية قبل نحو أسبوع بعودة رسمية للنظام السوري ومشاركة رئيسه.

لم تكن هذه القمة عادية الدلالة، كما كانت عليه أغلب اجتماعات القمم السابقة. من بين هذه الدلالات، أنها تأتي كإعلان رسمي من الأنظمة العربية بإغلاق حقبة من الثورات فيما عرف بالربيع العربي، أي أنها تتويج لهزيمة الثورات في المنطقة وإشهار انتصار الأنظمة على شعوبها، أو الأصح إعلان انتصار الثورة المضادة الإقليمية.

من جهة أخرى، تأتي هذه القمة للأنظمة العربية كنتيجة من نتائج التحولات في النظام العالمي المتغير، لتعلن تدشين نظام إقليمي (عربي) جديد تقوده المملكة العربية السعودية ومن خلفها دول الخليج، حتى ولو تباين موقف بعضها مع السعودية، ولكنها تسير خلفها، حيث أن السعودية بعد أن حولت دول الخليج إلى كتلة موحدة، نسبياً، تقودها، تقدمت إلى قيادة النظام العربي الجديد، الذي أصبح لها اليد العليا فيه، خاصة أن الرياض بدأت بترتيب تفاهمات بينها وبين الدول الإقليمية الأخرى المنافسة لها: إيران وتركيا.

ما يقف في خلفية هذا التحول في المشهد الإقليمي، ليس فقط التنافس الجيوسياسي بين الدول الكبرى وأيضا بين الدول الإقليمية، بل الأساس الاقتصادي لهذه التحولات الكبرى.

تشير تقديرات البنك الدولي أن الاستثمارات الخليجية تقارب  40 بالمئة من إجمالي  الاستثمارات الأجنبية في العالم العربي، وثمة تفاصيل أخرى تشير إلى أن الرأسمال الخليجي أصبح له دور رئيس في الدورة الاقتصادية للبلدان العربية، ما يعني أنه رأسمال عضوي لتلك البلدان. مايعني أيضاً أن الأوضاع السياسية واصطفافات الأنظمة العربية أصبحت تمس مباشرة المصالح الاقتصادية والسياسية للسعودية ودول الخليج. ولا يمكن لأي قوة سياسية، لاسيما التغييرية منها، أن تتجاهل هذه الحقيقة بعد اليوم، خاصة بعد ما شهدناه من تعاملها مع عقد “الربيع العربي”، وعليه فقد أصبحت السعودية ودول الخليج جزءاً عضوياً من اقتصادات وسياسات الأنظمة العربية الأخرى، مع استثناءات قليلة جداً.

في المقلب الآخر، على الصعيد الإقليمي، تأتي الانتخابات التركية ودلالاتها؛ فالدورة الأولى منها أكدت تقلصاً واضحاً لنفوذ أردوغان وحزبه. رغم فوزه في الانتخابات البرلمانية بهامش ضئيل، ما سيفرض عليه تحالفات تتطلب تنازلات لكتل برلمانية أخرى. في حين أن الفوز المتوقع لأردوغان في انتخابات الدورة الثانية تؤكد مدى الانقسام العميق داخل المجتمع التركي، غير أن النظام التركي قد يصبح غير مستقر لفترة طويلة، لجهة أوضاعه السياسية في الداخل والخارج، وعلى أرضية تفاقم أزمته الاقتصادية. جدير بالإشارة أن هذه المسائل كان لها دور في دفع أردوغان لإعادة النظر في سياساته الإقليمية المفرطة في عدوانيتها مع الدول الإقليمية الأخرى مثل السعودية وإيران ومصر، وفتح مسار تفاوضي مع النظام السوري.

لا نعتقد بهذه الشروط عودة سريعة من تركيا لسياسات التنافس الإقليمي العنيف، كما فعلته في العقد الماضي، وخصوصاً بسبب أزمتيها السياسية والاقتصادية. هنالك استثناء واحد وهو الأكثر احتمالاً والمتمثّل في الإبقاء على تعاملها المتعنّت الرافض لحقوق الشعب الكردي. ويبدو لنا أن النخبة السياسية الحاكمة التركية، رغم خلافاتها، بشقيها الأردوغاني وحزب الشعب الجمهوري المعارض تتوافقان، إلى حد كبير، على هذا الموقف الشوفيني.

والحال، فإن ملامح التغييرات الدولية والإقليمية المذكورة أعلاه تؤثر، بلا شك، بشكل ملحوظ في الوضع السوري. فرغم خطاب النظام عن انتصاره المزعوم، فإن الواقع يشير إلى أنه، ومعه البلاد، في وضع أضعف بكثير مما كان عليه. فقدراته الاقتصادية تأثرت إلى حد كبير بتحطم البنى التحتية للبلاد وبمفاعيل العقوبات والحصار الذي يتعرض له، والذي في الحقيقة يفاقم من معاناة السوريين أكثر من إزعاجه للنظام والنخبة التي تحيط به. وفي الوقت عينه فإن عودة النظام إلى حضن النظام الإقليمي العربي المذكور يرافقها التزامات منها ما يخص مكافحة تهريب المخدرات وأخرى تتمثل في الخطو باتجاه حل سياسيّ، حتى ولو كانت شكلية. هذا الحل لن يكون ممكناً نتيجة الطبيعة المغلقة للنظام، بالتالي قد يجري تطعيم حكومته بشخصيات محسوبة على المعارضة التابعة للدول الإقليمية في إطار ما قد يسميه حكومة “وحدة وطنية” ليتم بذلك دفن القرارات الأممية، التي لم يعد تنفيذ تفاصيلها شرطاً للتعامل معه من قبل العديد من دول المنطقة والعالم.

ورغم أن المناخ العالمي والاقليمي يبدو للوهلة الأولى غير موائم، بل وسلبي، تجاه الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا.  لكننا نرى أن هذه التحديات تشكل فرصاً أيضاً للإدارة الذاتية، ذلك أن هذه الإدارة تشكل مفتاح الحل السياسي الديمقراطي لمستقبل سوريا، دونها لا حل سياسي ولا ما شابه. وهي في كل الأحوال، لن تكون لقمةً سائغة لمن يشاء. وتكلفة محاولة القضاء عليها من أعدائها وخصومها مكلفة للغاية لهم. هذا لا يعني النوم على وسادة هذه الوقائع، بل يتطلب منا متابعة ما قامت به الإدارة الذاتية صمن مبادرات صائبة بدءاً من إرسال المساعدات الإغاثية إثر زلزال شباط هذا العام، وما تلاها من مبادرة للسلام والتفاوض من أجل بناء نظام ديمقراطي لامركزي يوقف المطحنة الجارية بحق الشعب السوري وتفتح آفاق مستقبل أفضل له، وصولاً إلى مبادرتها الأخيرة بخصوص اللاجئين السوريين.

هذه السياسات الجدية والصائبة للإدارة الذاتية تشكل منعطفاً هاماً على صعيد الصراع الداخلي، وتضع الإدارة  في موقع الحامل المركزي لهموم السوريين ومطالبهم وطموحاتهم، والفاعل السوري الأكثر حرصاً على سلامة سوريا وشعبها. تطوير هذه السياسات بالغ الأهمية، لأن المخاطر التي نواجهها مصيرية. وما يطلب من الإدارة هو تحويل الإدارة القائمة إلى أنموذج حي وتقدمي وجاذب لعموم السوريين ويعبر عنهم، كما أنها تتطلب سياسات  منفتحة وغير منحازة في الصراعات الدولية والإقليمية، بما يخدم مصالح السوريين ومستقبلهم. وعلى الصعيد السياسي- التنظيمي يتوجب تحديث برنامج وهيكلية مسد (مجلس سوريا الديمقراطية) ليصبح حقاً وفعلاً قاطرة الحركة الديمقراطية، إذ لا أفق لأي مشروع آخر ضمن الشروط الراهنة ليكون بديلاً عن مسد.

لا يمكن بناء الجديد بأحجار القديم التي تفتت، وغير ذلك لن يكون سوى بيعاً لمزيد من الأوهام وتضييع الفرص في لحظة حرجة في تاريخ بلادنا مليئة بالتحديات والفرص التي تحتاج إلى أعلى أشكال الجدية في الوعي والممارسة والمسؤولية. هكذا  تكون الإدارة الذاتية، ضمن هذه الصيرورة، المرتكز الأساسي للانتقال الديمقراطي وإعادة توحيد البلاد وبناء نظام سياسي واجتماعي جديد يدخل في مصلحة الشعب السوري.

هي، إذن، مرحلة مخاض عالمي وإقليمي، تتجلى كل يوم ملامحه بوضوح أكبر. هذا الجديد الذي يولد لا يضاهي بإنسانيته القديم الذي يندثر، ولا يبشر بخير، كما كان السابق، لشعوب المنطقة والعالم. لكن فهمه بشكل دقيق، قد يسمح برسم سياسات أصح لمقاومة الشعوب من أجل تحررها، وأهمية تضامنها ووحدة نضالاتها، فهذه الشعوب لن تتوقف عن توقها للتحرر الشامل.