قمة الجسور المتصدعة

أحمد رحال

فرض ولي العهد السعودي ورئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان نفسه، قائداً عربياً من خلال حسن إدارته لأكبر اجتماع عربي، وقيادته للزعماء العرب في قمة جدة، رغم تحفظ البعض من حيث انفراده بالدعوات التي وُجهت لضيوف الشرف وخاصة دعوة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي حضر بزيه العسكري في تحدٍ واضح لحلفاء بوتين من العرب وخاصة بشار الأسد، الذي تمثل قمة نضاله الثوري بالرد على زيلينسكي عبر رفع السماعات عن أذنيه ورفض الاستماع.

القمة التي انعقدت في ظروف استثنائية معقدة ومتشابكة، وحضرها نسبة عالية من الحكام العرب، لكنها خرجت دون حلول؛ فالحرب بين جنرالات السودان، حميدتي والبرهان، مازالت ترمي بحممها على الشعب السوداني. ومازال الحوثيين تحت كنف مشروع ولاية الفقيه يحتلون العاصمة صنعاء ويدمرون اليمن، والصراع على السلطة في ليبيا لم يتوقف ولكل طرف داعميه من العرب وغيرهم، ولبنان مازال كرسي رئاسته فارغاً بعد أن سيطرت دويلة حزب الله على قرار لبنان السياسي والعسكري، أما العراق مازال يعيش نكبة ارتهان معظم قياداته السياسية والعسكرية والأمنية للمشروع الإيراني على حساب شعب العراق المنتفض والثائر، كذلك مازالت تتساقط زخات من التراشق الإعلامي على الحدود الجزائرية المغربية، أما في سوريا فبدل من تعرية بشار الأسد ونظامه القمعي الاستبدادي ودعم قضية الشعب السوري، فقد وُجهت للقاتل دعوة لحضور القمة، التي اعتبرها ومحوره انتصاراً مظفراً، بل ذهب لأبعد من ذلك عندما اعتبر الجامعة العربية من عادت لدمشق وليس العكس، وأن حضور الأسد للقمة العربية مكرمة جديدة يمنحها للعرب على غرار مكرماته التي لا تعد ولا تحصى لمن يعيش في مزرعته “سوريا”.

بعيداً عما تبادله حكام العرب بكلماتهم المختزلة، بتعليمات من ولي العهد السعودي رئيس القمة، إلا أن ما لحظه الجميع أن كلمة الأسد خلت من أي عبارة تخص معاناة الشعب السوري، بل اقتصرت على نظرية “تكتيك تبديل الأحضان” وكثير من الهراء غير المفهوم، وكان واضحاً أن كلمته تعبر عن رفض ضمني لطلبات سرية وشروط مسبقة قدمها رعاة المبادرة العربية والتي تعتمد على سياسة “خطوة مقابل خطوة”، وما لم تتضمنه كلمة بشار الأسد وضحها نائب وزير خارجيته أيمن سوسان بلقائه على إحدى كبرى الفضائيات العربية عندما اعتبر أن النظام السوري قدم كل ما هو مطلوب منه وغير مستعد لتقديم أي شيء جديد، على اعتبار أن الطلبات العربية تراها دمشق تدخلاً بالشؤون الداخلية، وأن ملف عودة اللاجئين وملف تجارة وتصنيع وإنتاج المخدرات تنتظر المليارات العربية التي يجب ضخها للمصرف السوري الفارغ من العملات الأجنبية.

لم تكن البنود الخاصة بالشأن السوري في البيان الختامي لقمة جدة هي من لفتت الانتباه باعتبار أنها أتت ضبابية وباهتة، ولا تمتلك أية أداة تنفيذية/ وكأنها كتبت لملء فراغات من الضروري عدم تركها شاغرة، بل كان اللافت بالقمة العربية استعراض مستشارة الأسد الإعلامية “لونا الشبل” لمهاراتها بـمضغ”العلكة” أثناء إلقاء القادة العرب لكلماتهم، بينما أنهى الأسد كلمته وغط بنوم عميق رصدته كاميرات المؤتمر.

في كلمات القادة العرب كان واضحاً إصرار جمهورية مصر ودولة الكويت على التأكيد أن الحل في سوريا مرتبط بشكل أساسي بتطبيق القرار 2254، أما أمير قطر تميم بن حمد فقد غادر القمة مسرعاً بعد عبارة وردت بكلمة الأمين العام للجامعة العربية أحمد أبو الغيط تنتقد التدخل التركي بالشؤون العربية، وبنفس الوقت كي يتفادى الأمير القطري الاستماع لكلمة الأسد.

الموقف الغربي من قمة جدة تراوح بين مشروع أمريكي تجاوز مجلس النواب بطريقه لمجلس الشيوخ تحت عنوان “قانون مكافحة التطبيع مع الأسد”، الذي اعتبره المشرّع الأمريكي بمثابة تطوير لقانون قيصر “قيصر2″، وأداة ضاغطة إضافية على إدارة الرئيس “بايدن” المتساهل بتطبيق القرارات الخاصة بالشأن السوري، وزاد على الأمر ما قاله “جيم ريش” عضو لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي عندما غرد قائلاً: اجتماع القمة العربية اليوم هو الأول منذ 12 عاماً ينعقد بحضور مجرم حرب هو الأسد، والسوريون ومئات آلاف من الذين قتلوا أو اختفوا يستحقون أن يكون هناك إجراء يحاسب بشار الأسد وليس التقاط الصور معه.

“جو ويلسن” رئيس اللجنة الخارجية في الكونغرس الأمريكي قال: اجتماع القمة العربية هذا الصباح كان مقرفاً، والعناق الدافئ للقاتل بشار الأسد سيقابل بعواقب وخيمة، وأنا أعمل على ضمان تطبيق قانون مكافحة التطبيع مع الأسد، وسيتم نقله بسرعة لمجلس الشيوخ.

حضور وكلمة الرئيس الأوكراني كانت محاولة من المملكة العربية السعودية لكسب ود الإدارة الأمريكية، لكنها أزعجت موسكو التي امتصت الصدمة وأرسلت رسالة للمؤتمرين من الرئيس الروسي “بوتين” تضمنت رداً على كلمة الرئيس الأوكراني، لكن الدعوة والرد الروسي، مع ورقة التفاهم السعودية_ الإيرانية برعاية صينية، شكلت خارطة تموضع سياسي جديدة للمملكة العربية عبر قيادتها الشابة التي تحاول النأي بالنفس، واتخاذ موقف حيادي إيجابي، ورسم استراتيجية سياسية جديدة تضفي الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط والمنطقة العربية الملتهبة عبر حروب متعددة، بهدف تأمين رؤية اقتصادية سعودية مستقبلية من خلال مشروع (2030) الذي يعمل عليه ولي العهد السعودي كمشروع يجعل من المملكة رائدة الاقتصاد في الشرق الأوسط، والتمهيد لاقتصاد سعودي جديد لا يكون فيه النفط العصب الأوحد في الاقتصاد، لكن ما غاب عن تلك الرؤية من خلال قمة جدة، أن استقرار المنطقة يكون بالاستجابة لتطلعات الشعوب وحل قضاياها العالقة والمعلقة، وليس توجيه الدعوات للأسد.

في المؤتمر الصحفي الذي أعقب قمة جدة لأمين عام الجامعة العربية ووزير الخارجية السعودية فيصل بن فرحان كان بارزاً أن سياسة “خطوة مقابل خطوة” هي السياسة المعتمدة بالملف السوري، وأن زمن الهبات ودفع الرشى بالمليارات لبعض الأنظمة المارقة درءاً لشرها، قد ولى وانتهى. وأن مطالب المبادرة العربية من دمشق تتطلب الإجابة والعمل على عدة ملفات أهمها قضية اللاجئين وخلق البيئة الآمنة لعودتهم كما نصت شرعة القوانين الأممية المتعلقة بالشأن السوري، وتضمنت أيضاً ملف احتضان دمشق لتصنيع وترويج وتهريب المخدرات والكيبتاغون، إضافة لمعرفة مصير خمسة جيوش أجنبية متواجدة على الأرض السورية، والمطلب الأهم عربياً كان سؤالاً للأسد: ما هي العلاقة بينكم وبين إيران وما هي أهدافها ونهايتها؟

قمة جدة التي كان يتأمل منها مد الجسور بين العرب، وإعادة الثقة لقدرات الجامعة العربية على حل مشكلات دولها داخلياً، وتنقية الأجواء العربية،انتهت بجسور متصدعة أكثر مما كانت عليه قبل انعقاد القمة.

بقي القول: إن فعاليات قمة جدة انتهت، لكن قضية الشعب السوري باقية، ودعوة بشار الأسد لحضور القمة لن تشكل فارقاً في مسيرة السوريين لقناعتهم المطلقة أن القمم لا توقف تطلعات الشعوب.