السياسة الخارجية لتركيا.. الاستمرارية والتغيير في خضم الانتخابات الحاسمة

تبدو المخاطر كبيرة مع اقتراب تركيا من انتخاباتها الرئاسية والبرلمانية المحورية في 14 أيار/مايو، حيث ستؤثر المنافسة التي ستضع مرشح المعارضة كمال كيليجدار أوغلو ضد الرئيس رجب طيب أردوغان، على مستقبل الأمة بما في ذلك سياستها الخارجية بشكل عميق.

وفي الحين الذي أظهرت فيه استطلاعات الرأي رجحان كفة كيليجدار أوغلو، فإن مدى التغيير في السياسة الخارجية التركية في ظل قيادة جديدة محتملة في أنقرة لا يزال أمراً غير مؤكداً. ولفهم المسار المحتمل لتركيا، يتوجب على المرء تحليل احتمالية التغيير من عدمه واحتمالية تغيير تركيا في مرحلة ما بعد أردوغان في حال فوز المعارضة.

إن فهم أولويات تركيا أمر بالغ الأهمية. فبالنسبة لأنقرة، تعد واشنطن وموسكو العواصم الأكثر أهمية، بينما تأتي لندن في المرتبة الثالثة، وتبقى الدول الأوروبية قليلة الأهمية. ومن غير المرجح أن يتغير هذا التسلسل الهرمي بغض النظر عمن يحكم تركيا.

محددات السياسة الخارجية التركية.. منهج التحليل  

لفهم السياسة الخارجية التركية، أقترح تحليلاً ثلاثي المستويات: المعايير المركزية لتشكيل السياسة والجهات الفاعلة المهيمنة في السياسة الخارجية والقضية المهيمنة التي تحدد مسارها.  

وبالاعتماد على بحثي، سأقوم بتقسيم المعايير المركزية إلى ثلاثة: الضرورة الجيوسياسية والضرورة الاستراتيجية وضرورة بقاء النظام.  

الغوص في المشهد الجيوسياسي.. دور تركيا في نظام إقليمي جديد  

الضرورة الجيوسياسية: تغير المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط، ففي أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين أصبح التدخل الأمريكي في العراق الشغل الشاغل لتركيا، مما أثار المخاوف من احتمال قيام الولايات المتحدة بقلب نظام الدولة القومية في الشرق الأوسط مع احتمال أن تكون تركيا هي الهدف التالي. وبالتالي، في الأول من آذار/مارس 2003، صوت البرلمان التركي على رفض السماح للولايات المتحدة باستخدام الأراضي التركية لمهاجمة العراق. وفي وقت لاحق، حل ذلك الخوف محل إمكانية الانسحاب التدريجي للولايات المتحدة من المنطقة، تاركة فراغاً سياسياً ملأه لاعبون متنافسون مثل روسيا وإيران. ودفع هذا تركيا إلى إعادة تقييم اعتمادها على الغرب لدعم السياسة الخارجية. وقد بدأت مسألة الانسحاب الأمريكي من المنطقة في عهد الرئيس السابق باراك أوباما واستمر في ظل الإدارات اللاحقة. ومع استعداد روسيا وإيران والصين لملء الفراغ، تعتقد أنقرة أنها تتكيف مع النظام العالمي الجديد. وفي الوقت الذي حاولت فيه تركيا سابقاً الضغط على روسيا (وبدرجة أقل على إيران)، فإن المواجهة المباشرة مع موسكو في عام 2015، عندما أسقطت تركيا مقاتلة روسية، أظهرت خطورة الاستمرار في مثل هذا النهج.  

الضرورة الاستراتيجية: ترى تركيا تحولاً استراتيجياً نحو عالم متعدد الأقطاب وتسعى جاهدة من أجل الاستقلال الذاتي عن الكتلة الغربية وتتبع سياسة خارجية مستقلة. وتعتبر المؤسسة التركية لعب القوى العظمى ضد بعضها البعض وسيلة لتحقيق هذا الهدف. وفي هذا المسعى، فإن انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي تأتي بمثابة مجموعة متنامية من دول القوة المتوسطة غير الراغبة في الالتزام كلياً بأي طرف من طرفي صراع القوى العظمى. 

إطار السياسة الخارجية لأنقرة.. الأصدقاء والأعداء ومناطق النفوذ

مستخلصاً من محادثاتي مع الخبراء وأصحاب الشأن، أعتقد أن مؤسسة السياسة الخارجية لأنقرة تقسم العالم إلى ثلاثة: أصدقاء يتمتعون بحصانة عالية وأعداء خطرين ودول يمكن لتركيا أن تسيطر عليها. وتندرج الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ضمن فئة “الأصدقاء السيئين”. في حين أن الحفاظ على العلاقات الودية مع هذه البلدان له فوائد كبيرة، إلا أن ذلك يترافق مع العديد من الشروط بما في ذلك الحاجة إلى الالتزام بسياسة خارجية منسقة وموقف عسكري ومتطلبات نظام اجتماعي سياسي منفتح نسبياً وتعددياً. ومن غير المرجح أن تشكل دول من هذه الفئة تهديداً استراتيجياً لتركيا أو تزعزع استقرار الأمة عن عمد.  

وعندما يتعلق الأمر بالأعداء الخطرين، تعلم أنقرة أن دولاً مثل روسيا والصين وإيران وإلى حد ما الإمارات والسعودية وغيرها، يمكن أن تزعزع استقرار تركيا من خلال استغلال توتراتها العرقية والدينية وغيرها من التوترات السياسية. لذلك، تجد تركيا نفسها في وضع غير مؤات في مثل هذه العلاقات ويجب أن تحافظ على علاقات وثيقة مع هؤلاء الخصوم بسبب نقاط ضعفها السياسية العديدة. وتشمل الفئة الثالثة البلدان ذات الكثافة السكانية المسلمة، حيث يمكن لتركيا أن تمارس نفوذاً أو حتى هيمنة عليها مثل ليبيا والصومال وأذربيجان ولبنان والسودان وغيرها.

ضرورة بقاء النظام: بقاء النظام هو العامل الحاسم الثالث. فقد نضجت العلاقات بين تركيا وروسيا في السنوات الأخيرة لا سيما في أعقاب الانقلاب الفاشل في عام 2016. وبعد الانقلاب، تلقى أردوغان دعماً عاماً من موسكو أكثر من الغرب، باستثناء المملكة المتحدة. وترى النخب الحاكمة أهمية تركيا في المشهد الجيوسياسي العالمي كرصيد يمكن الاستفادة منه ضد كل من الغرب وروسيا، حيث يشقون طريقاً لبقائهم.  

وإذا ما تم انتخاب حكومة معارضة، فمن المرجح أن تستمر في اتباع سياسة خارجية مستقلة واستخدام القوى العظمى ضد بعضها البعض لصالح تركيا. ومن المرجح أيضاً أن تتعاون مع الغرب في القضايا ذات الاهتمام المشترك مثل تعزيز حلف الناتو.

ومع ذلك، فإن تغيير الحكومة من شأنه أن ينهي ضرورة بقاء النظام. وترى الحكومة الحالية بقاءها في وجود علاقات جيدة مع روسيا. ولن تكون أي حكومة معارضة مقيدة بهذه الدرجة وستشعر بدعم العالم الغربي.

الجهات الفاعلة المؤثرة في السياسة الخارجية التركية.. الرئاسة والجهاز الأمني  

الجهات الفاعلة: الرئاسة والجهاز الأمني أهم الفاعلين في السياسة الخارجية التركية. فالرئاسة لها الكلمة الأخيرة في جميع مسائل السياسة الخارجية، بينما يلعب الجهاز الأمني دوراً رئيسياً في تشكيل سياسات تركيا الإقليمية. وعلى الرغم من فوز المعارضة، فإن الرئاسة ستتغير، إلا أن وكالة الأمن القوية والجهات الفاعلة داخلها ستستمر في السيطرة والتأثير على قرارات السياسة الخارجية مما يضمن استمرارية السياسة الخارجية التركية.

المسألة الكردية: عامل مركزي في رسم العلاقات الدولية لتركيا

في التناقض: المسألة الكردية تلوح في أفق السياسة الخارجية التركية بشكل كبير باعتبارها أكثر اهتمامات السياسة الداخلية والخارجية إلحاحاً. ويساعد مفهوم ماو تسي تونغ لـ “في التناقض” في تفسير الدور المركزي للقضية الكردية باعتباره أهم عامل محدد للسياسة الخارجية التركية.

إن مقاربة أنقرة للمسألة الكردية تجسد أيضًا تصنيف الأعداء الخطرين والأصدقاء السيئين. ويتم الضغط على الحكومات الغربية لعدم الاعتراف بالجهات الكردية أو التعامل معها في سوريا أو تركيا، بينما تسعى تركيا لثني روسيا وإيران عن تقديم أسلحة متطورة إلى الجهات الكردية غير الحكومية. لكن وقف الأعمال العدائية بين تركيا والجهات الكردية غير الحكومية من شأنها أن يغير هذا الحساب.  

وحتى لو استولت كتلة المعارضة، بدعم من الحركة الكردية المهيمنة، على السلطة، فإن القضية الكردية ستستمر. ومع ذلك، فإن التحسن المحتمل في العلاقات مع كرد تركيا قد يدفع المعارضة إلى معالجة القضية الكردية المحلية، مما قد يؤثر على سياسات تركيا الإقليمية والدولية.

معاداة أمريكا في تركيا: تأثير المشاعر المحلية على السياسة الخارجية  

العداء لأمريكا شائع في تركيا، ومع جميع الفصائل السياسية من الإسلاميين إلى القوميين إلى العلمانيين وحتى بعض الليبراليين الذين يشاركونهم نفس المشاعر. سنوات من الخطاب الرسمي المناهض لأمريكا تجعل من الصعب جداً على أي حزب سياسي السعي إلى علاقات إيجابية علنية مع الولايات المتحدة.  

قد يقلل القادة الغربيون المتمرسون في السياسة الواقعية من أهمية مثل هذه الروايات ويركزون على الإجراءات الملموسة في الدول الحليفة مثل تركيا. ومع ذلك، فإن كارل ماركس كان سيدرك أن الأفكار أو النظريات، بمجرد أن تتبناها الجماهير، يمكن أن تترجم أيضاً إلى قوة مادية، والتي لا تقل أهمية عن الأفعال الملموسة.  

إن احتمالية الاستمرارية في السياسة الخارجية التركية أكثر من التغيير كبيرة. وإن القضية الكردية وتأثير الجهات الأمنية والمشاعر المعادية للغرب المنتشرة في السياسة التركية متأصلة بعمق وتوفر أساساً مستقراً لاستمرارية هذه السياسة.  

تعاون تركيا العدائي مع روسيا   

في حين أن المعارضة قد تسعى إلى حل مسألة شراء أنظمة الدفاع الصاروخي الروسية S-400 من خلال إيجاد حل مع الناتو، فمن غير المرجح أن تقطع العلاقات مع روسيا.  

وقد وصفت في مكان آخر علاقة تركيا وروسيا بأنها علاقة تعاون عدائي. ولا يقتصر الأمر على عدم تعارض الدولتين والتنافس في ساحات حرب مختلفة في ثلاث قارات فحسب، بل تقومان أيضاً بالتنسيق والتعاون على حساب الجهات الخارجية الأخرى بما في ذلك الولايات المتحدة وشركاء الناتو الآخرين. وتتجلى هذه العلاقة المعقدة في صراعات مثل سوريا وليبيا وناغورنو كاراباخ، حيث دعمت موسكو وأنقرة بنشاط الأطراف المتحاربة المتناحرة. ومع ذلك، فإن موقعهم العدائي لم يعرقل التعاون.  

علاوة على ذلك، تمتد العلاقة بين أنقرة وموسكو إلى ما هو أبعد من الصراعات لتشمل التعاون في مجال الطاقة والسياحة وطبقات أخرى. إن علاقات أنقرة وموسكو متعددة الطبقات وتشمل التعاون في مسارح حرب التعاون في مجال الطاقة والسياحة. ومن المرجح أن تستمر الاجتماعات التي تديرها موسكو بين المسؤولين الأتراك والسوريين في ظل حكومة معارضة. 

ومن الناحية التاريخية، أظهرت السياسة الخارجية التركية استمرارية أكثر من التغيير، حيث كانت التحولات السياسية مدفوعة بالضرورات الجيوسياسية بدلاً من القناعات الأيديولوجية. وكان التوازن بين روسيا وحلف الناتو استراتيجية طويلة الأمد في السياسة التركية. وكانت القومية محدداً ثابتاً للسياسة الخارجية للبلاد. ويمكن لحكومة جديدة بقيادة كيليتشدار أوغلو أن تجلب المزيد من الطابع المؤسسي والتعاون مع الغرب لكن العوامل الراسخة مثل القضية الكردية والمشاعر المعادية للغرب ستضمن بقاء الاستمرارية مهيمنة أكثر.

كتبه غوناي يلدز لمجلة فوربس الأمريكية وترجمته نورث برس