العالم ونحن على مفترق طرق

لم يكن النظام العالمي مأزوماً وقابلاً للانفجار كما هو في هذه الأوقات، وصلت حدة أزمته إلى حد المواجهة العسكرية في أوكرانيا منذ أكثر من عام من الزمن، فضلاً عمّا يحدث من مناورات عسكرية في بحر الصين وغيرها من المناطق. العالم إزاء مرحلة انتقالية مليئة بالمخاطر، سينجم عنها، في كل الأحوال، نظام عالمي جديد، حتى ولو كان ما يزال في أول إرهاصاته. إن عالمنا، وبلا أدنى شك، بات متعدد الاقطاب وغير مستقر.

لهذا الوضع المتأزم، نتيجة صراع وتنافس الدول الكبرى، تأثيراته الإقليمية  من بينها تجميد الدول الإقليمية من خلافاتها وصراعاتها، واتخاذها موقفا شبه محايد من الصراع الروسي -الصيني مع الغرب بقيادة الولايات المتحدة. في حين أن الدول الأوروبية قد تم جرها إلى موقع أحد طرفي الصراع، ما سيجعل من تحولها إلى أحد الاقطاب العالمية في النظام الجديد أصعب بكثير عما كانت عليه قبل الحرب الأوكرانية، والمفارقة أن انخراطها، غير المباشر، في هذه الحرب افقدها الكثير من استقلاليتها السابقة عن الولايات المتحدة، وهي ما تحاول بعض دولها، على الأخص فرنسا، بذل كل ما بوسعها من أجل استعادتها، فتصريح الرئيس الفرنسي مؤخراً “إننا حلفاء للولايات المتحدة ولسنا تابعين لها” يؤكد على ذلك، ولكن لن يكون أمراً سهلاً عليها ولا سريعاً.

ينعكس، إذن، هذا الصراع عالمياً بين الكتلتين الشرقية والغربية، إذ نشهد تنافساً دموياً بينهما  في بلدان إفريقيا، آخرها الحرب الدائرة بين طرفي العسكر في السودان، كل طرف منهما محسوب على إحدى الكتلتين العالميتين المتصارعتين، ما يشير إلى مسعى هاتين الكتلتين  لجر الدول والحلفاء الى اصطفافات أشد حدة في كل المناطق. حيث ستسعى كل كتلة إلى مقارعة غريمتها، عبر حلفائها، أو من تجبرهم على ذلك، في كل البلدان.

هذا يعيدنا إلى الوضع في سوريا، وما قد تكون عليه تأثيرات هذا النزاع العالمي، الذي فكك النظام العالمي القديم وتوازناته، كما كنا نعرفه،  إلى غير رجعة.

كل الدلائل تشير إلى أن التوازن الذي كان قائماً بين الدول المتدخلة (اقرأ المحتلة) في سوريا مرشح للانهيار، بمعنى أننا نجد أنفسنا أمام معسكرين متواجهين بشكل أكثر حدة مما سبق. من جهة، حلف أستانا إضافة إلى نظام الطغمة، في مواجهة الولايات المتحدة ومن يحسب عليها، من جهة أخرى. قد لا يصل الأمر إلى درجة الحرب المباشرة بينهما، على الأقل في المدى المنظور، ولكن يمكننا أن نتوقع، دون أن نخطئ كثيراً، أن ثمة تصعيداً بينهما وشيك على كل الصعد على الأرض السورية وفي المنطقة، قد تكون على شاكلة نوع من أنواع الحرب الهجينة العالية الحدة. ولا سيما أن معسكر (أستانا + النظام) ينتابه تقدير، مبالغ به،  أن له “اليد الطولى” في الحالة السورية، ما سيدفع به إلى تسخين الأوضاع ورفض التنازلات والمساومات. واذا أضفنا إلى ذلك مساري التطبيع بين النظامين التركي – السوري والعربي – السوري، رغم بعض المعوقات لهما، فإننا يمكننا أن نتكهن أن موقف نظام الطغمة الحاكم في دمشق سيكون أكثر تعنتاً وتشدداً في تعامله مع متطلبات الحل السياسي الذي يعني انتقالاً ديمقراطياً جدياً. وبالتالي يُتوقع منه تشدداً أكبر بالتعامل تجاه الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا والقوى الديمقراطية الجدية، وأكثر تساهلاً مع المجموعات المعارضة التابعة للنظام التركي، أو تلك التي تعمل تحت وصاية السعودية ودول الخليج، المتمثلة في هيئة التفاوض أو الائتلاف، مثلاً. وهو ما يؤكد على أن فهم النظام في دمشق للانتقال الديمقراطي، في أفضل الحالات، لا يتجاوز قبوله بدمج بعض شخصيات المعارضة المرتهنة في ما قد يسميه حكومة “وطنية”، أي إضافة رتوش باهته لا تخفي طبيعته الاستبدادية ولا تغير شيئا في بنيته.

في المقابل، هناك الإدارة الذاتية والقوى الديمقراطية حولها التي تملك، فعلاً،  مشروعاً قائماً على الأرض وله من العمر سنوات ويتفوق بما لا يقاس عن ما هو قائم لدى النظام أو في مناطق الاحتلال التركي، على كل الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. في حين أن المعارضة المرتهنة المذكورة فهي تبقى ذيلاً لأسيادها، ولا قيمة فعلية لها، ذلك أنها لا تملك وزناً او قراراً مستقلاً.

علاوة على ذلك، وبخلاف الأضاليل التي يطلقها خصومها، فإن مشروع الادإرة الذاتية إنما هو مشروع تحرري سوري مستقل تماماً، لا يرتبط بالاستراتيجية الأمريكية، أو بغيرها من الدول، في المنطقة، بل يناقضها في طبيعته ودينامياته، سياسياً وإيديولوجياً.

في هذه المعمعة الهائلة الجارية على المستوى العالمي والإقليمي والمحلي، يلزم الموقف السياسي السليم لقوى التحرر والديمقراطية في سوريا، وفي مقدمتها الإدارة الذاتية، الوقوف على الحياد في الصراع العالمي بين الضواري الكبرى، فلا مصلحة لشعوبنا في خوضها مع أي من الكتلتين المتصارعتين؛ الشرقية والغربية. والدعوة للسلام في بلادنا والعالم ووقف حروب الهيمنة، واتخاذ كل المبادرات لتوحيد كفاح السوريين من أجل إخراج الشعب السوري من الكارثة الحالية وإعادة توحيد البلاد وبناء نظام ديمقراطي لامركزي، واستعادة سيادة السوريين على أرضهم ومصيرهم ووقف سفك دمائهم. هذه المهام الوطنية والسياسية والاجتماعية الكبرى يقف في مقدمة من يتحمل أعبائها والعمل  على تحقيقها، أولاً،  الإدارة الذاتية والقوى الديمقراطية السورية الملتفة حولها، أو الشريكة لها.