مجزرة جنديرس في ذكرى الثورة

يحمل إلينا شهر آذار ذكرى انتفاضة الشعب السوري على أعتى نظام استبدادي في المنطقة، وإعلان السوريين ثورة شعبية عفوية ضمت كل مكوناته دون استثناء، وعندما صرخت درعا كانت عامودا أول من لبى النداء، ليصل الخبر إلى بانياس واللاذقية ودير الزور وحمص وحلب وحماه، فخرج الجميع ليقولوا هتافهم الشهير: “يا درعا حنا معاكي للموت”، وأعلنوها ثورة أرادت الانتقال من نظام العبودية إلى فضاء الحرية، ومن فساد القضاء والأمن إلى العدالة واستعادة الحقوق، ومن مجتمع خربته ثقافته البعث عبر نشر الجريمة والرشوة والفساد وتخريب بنية النسيج المجتمعي السوري، إلى مجتمع جديد ودولة ديموقراطية تنعم الناس فيها بالكرامة والمساواة.

لكن حسابات السوق لم تتطابق مع الصندوق، وما سعى إليه الشعب عبر ثورته المباركة لم يكن مرغوباً من كثر أرادوا تخريب هذا المسار عبر ثورة مضادة دفعت بقيادات مصنعة تصدرت المشهد السياسي والعسكري والحكومي للثورة، فأُبعد أهل الثورة والساعون لانتصارها، ووضعت أزلام الأجندات الخارجية الباحثين عن المناصب والمكاسب وعن الأرباح والمنافع، ووضعوا العصي بالعجلات، فتراجعت الثورة عسكرياً وفشلت سياسياً وأحبطت حكومياً، عبر قيادات لا مصلحة لها بتحقيق إرادة الشعب، لكن، رغم ذلك استمرت الثورة شعبياً.

الشعب السوري الذي عانى على مدار أربعة عقود من حكم نظام الأسد وشبيحته وأجهزته الأمنية، حيث ضاعت حقوق الناس وانتشرت شريعة الغاب؛ فالكبير يأكل الصغير، ومن يدفع أكثر يحوز أحكام القضاء الفاسد، فيما أصبحت سلطات الأمن وأجهزتها الآمر الناهي بكل مفاصل حياة السوريين، فقُسمت سوريا لمزارع أمنية تقاسمتها أفرع الاستخبارات المتعددة. كان لزاماً على من يريد فتح كشك صغير أو نصب بسطة صغير لبيع الأطعمة، الحصول على عشرات الموافقات الأمنية والحكومية ودفع الرشى، أو أن تختار، مجبراً، أن تكون مخبراً وعميلاً لتلك الأجهزة. أما إن كنت من رجال الأعمال ومن أصحاب الأموال فعليك أن تتنازل عن نصف مشاريعك وأرباحك أو حصة من ممتلكاتك للسلطة الحاكمة لتستطيع العمل داخل البلاد.

الشعب السوري الذي أطلق ثورته ضد المنظومة الأسدية الحاكمة أراد أن يخلق البديل والنقيض، والانطلاق لبناء دولة المواطنة، الدولة الديموقراطية، الدولة التي يحكمها القانون, ويسودها العدل، ويتساوى فيها الجميع ومن كل المكونات السورية تحت سقف القانون، ولا فرق حينئذٍ بين عربي وكردي، أو مسلم ومسيحي، إذ ينبغي أن يكون المنصب للكفاءة وأصحاب الأمانة الوطنية بعيداً عن أي تمييز.

لو أسقطنا تلك المعايير وما أراده السوريون على المناطق التي قيل لنا أنها “محررة”، لوجدنا العجب، ووجدنا أن معظمها يُحكم بقبضات الأمن وعسف والقضاء السيئ وفساد الساسة والمسؤولين، وعليه، انتشرت الجريمة ونصب الحواجز، واُتخذت المعابر سبيلاً لتهريب البشر والبضائع، وساد الظلم وانعدم الأمان، وضاعت الأمانات، وارتهن الناس مجبرين لأمراء حرب يحكمون القضاء ويسيطرون على الأمن ويفعلون ما يشاؤون بعد أن تشاطروا مع أسيادهم من الطبقات العليا والساسة سرقاتهم واختلاساتهم ومكاسب جرائمهم.

ذكرى الثورة التي تعود هذا العام في ظل نكبة إنسانية طبيعية أزهقت معها أرواح آلاف السوريين عبر الزلزال المدمر الذي ضرب سوريا وتركيا، آثرت الذكرى إلا أن تحمل معها فاجعة وكارثة أخرى تمثلت بمجزرة رهيبة وقعت في “عيد نوروز” في مدينة جنديرس، جريمة ارتكبها مجرمون يتبعون لفصيل “جيش الشرقية” التابع لما يسمى “الجيش الوطني”، رغم أن الكرد في مناطق شمال وغرب سوريا رفضوا أن تقام الطقوس المتعارف عليها سنوياً بمناسبة نوروز من رقصات ودبكات وأفراح، واكتفوا احتراماً ومشاركة لنكبة السوريين بالزلزال برفع مشاعل الحرية فقط، لكن هناك من أراد أن يمارس طقوسه الإجرامية عبر أجندات قد يكون لجبهة النصرة وزعيمها أبو محمد الجولاني يد فيها، فانطلق ثلاثة ممن يحمل سلاح الغدر ليطلق النار على أربعة مدنيين لا ذنب لهم إلا أنهم من الكرد وأنهم يحتفلون بطقوس مناسبة عزيزة على قلوبهم لا يؤذون فيها أحد ولا يمسون فيها مشاعر أحد.

الجريمة التي ارتكبت في مدينة جنديرس بالتأكيد لا تعبر عن إرادة سكان “المحرر” بدليل أن معظم البلدات والقرى والمدن العربية خرجت بتظاهرات تندد بالجريمة مطالبة بإنزال أقسى العقوبات بحق مقترفيها، لأن بطش تلك العصابات وتلك الشراذم لا تمثل إرادة السوريين وليست من ثقافتهم وليست من عاداتهم وتقاليدهم، وفي كل الزمن الماضي كان السوريون يشعرون بالظلم الذي يمارسه نظام الأسد ضد إخوانهم الكرد عبر منعهم من الاحتفال بعيدهم، وكيف كانت أجهزة الأمن تلاحقهم وتقتل بعضهم وتزج بما تبقى في سجونها ومعتقلاتها لحقد دفين يعيش في أدمغتهم الفاسدة على كل السوريين وليس على الكرد فقط.

جريمة جنديرس التي حصدت أرواح أربعة مدنيين دون ذنب، أعادتنا لسنوات مضت والسوريون يطالبون فيها بإعادة هيكلة وزارة الدفاع والجيش الوطني وتخليصه من الاختراقات التي زُرعت في مفاصله، وخاصة فصيلي “أحرار الشرقية” و”جيش الشرقية”، بعد أن تم وضعهما على قوائم الإرهاب الدولية، والتأكيد وبالأدلة لحمايتهم وضمهم للعشرات من تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في فصائلهم وحتى من قادتهم، لكن كل المطالبات الشعبية ذهبت أدراج الرياح، ذلك أن  القانون مستباح، ودولة المزارع يكون فيه السيد والآمر الناهي وصاحب القرار هو “المعلم” الذي يعتبر كل عناصر الفصيل مع سلاحهم وعتادهم ومستودعاتهم وأموالهم، ملكاً للقائد أو المعلم، فينقلهم أنَّ أراد وحيث تكمن مصلحته، وعند اللزوم يرتكبون أي جريمة تريدها أهواء “المعلم”، فيقتلون الإعلامي الحر محمد أبو غنوم وزوجته وجنينها فقط لأن “هيك بدو المعلم”، كما قال رئيس الأمن في فصيل “الحمزات” بعد أن تم إلقاء القبض عليه وسُئل لماذا ارتكبت جريمة قتله؟

وما ينطبق على معظم فصائل الجيش الوطني ووزارة الدفاع ينطبق تماماً على معظم وزارتي العدل والداخلية، حيث أصبحت الأحكام تنفذ وفق مشيئة “المعلم”، ووفق إرادة أصحاب المال السحت، فضاعت حقوق الناس وانتشرت شريعة الغاب، وغاب الأمن حتى أصبح الناس كما كانوا في حظيرة الأسد يشعرون بالأمن عندما يغيب عناصر الأمن. أما القادة من سياسيين وحكوميين ووزراء، فهؤلاء ينطبق عليهم وصف شهود الزور على اعتبارهم يحكمون ولا يملكون، لكنهم شركاء بالمرابح وكل حسب منصبه.

هذا الواقع المأساوي نبهت إليه حاضنة الثورة وخرجت عشرات المرات وبأيام الجمعة وسواها لتقول أخرجوا الفصائل والمقرات من المدن، وغادروا الحواجز والمعابر، وتوقفوا عن سرقة الآثار وقطع الغابات والأشجار، وأقفوا رعايتكم للتهريب وفرض الإتاوات، فمكانكم على  الجبهات وليس على صدور الناس وممتلكاتهم، لكن أصوات الناس ذهبت أدراج الرياح بمسؤول فاسد وسياسي طامع وأمير حرب أهوج وعنصر مغسول الدماغ، فوصلنا لزمن تكون فيه أرواح أربعة مدنيين في مدينة جنديرس معلقة بقرار من رأس مجرم عتيد فقط أراد القتل.

في ذكرى الثورة وجراح شعبنا لم تلتئم بعد من الزلزال المدمر الذي عبث بأرواح أبنائه، وفي ذكرى ثورة طُعنت قبل أن تكتمل، وفي جريمة نكراء ارتكبت بحق مكون سوري أصيل من مكوناته، يعيد ويؤكد أن الثورة أصبحت بحاجة لثورة على الثورة، لتعيدها إلى مبادئها وأهدافها التي خرجت من أجلها؛ فالسوريون لم يخرجوا ليشاهدوا تلك المسوخ تتصدر معظم مشهدهم السياسي والعسكري والحكومي، بل أرادوا وضع الرجل المناسب بالمكان المناسب، وأرادوا بناء دولة مدينة ديموقراطية يسودها العدل والإنصاف، ويتساوى فيها الجميع تحت سقف القانون، والزمن لم يفت بعد للعودة لما أردناه وما كنا عليه عام 2011، فهل تمتد الأيادي لتتكاتف وتتشابك لتفجير ثورة جديدة؟

رحم الله شهداء نوروز في جنديرس، وكل شهداء الشعب السوري.