مقدمة
لم تغب ظاهرة التمييز العنصري عن المجتمع السوري في أي وقت بسبب ممارسات السلطات ونشرها لثقافة المركزية, التي جعلت من غير القاطنين في مدن الداخل السوري، يعتبرون أدنى بدرجات ويتمتعون بحقوق أقل, وعملت السلطات على تقسيم البلاد وسكانهم بحسب قومياتهم ودياناتهم والمذهب وحتى البيئة التي يقطنون فيها.
ومع بدء الحرب السورية عام 2011 , بدأت نتائج السياسات التي تتبعها السلطات منذ عقود تطفو على السطح, وحولت الوضع من السيء إلى الكارثي, حيث أصبح التمييز جلياً في سوريا, وبلغ درجاتٍ في غاية العنصرية لدى أطراف النزاع والمجموعات المسلحة التي ظهرت مع الحرب, ووصلت إلى حد القتل على أساس الانتماء العرقي والقومي والديني والسياسي واستعباد المختلف ومصادرة أملاكه واستغلال النساء جسدياً وجنسياً بالإضافة إلى حالات الاعتقال والاختطاف على الأساس القومي والديني.
عنصرية ما بعد الحرب
استباح كل أطراف النزاع أرواح وأملاك الطرف الآخر، ولم يفرقوا بين مدني وعسكري, وامتلك العسكريون امتيازات سمحت لهم بالاعتداء على المدنيين واعتقالهم تعسفياً والاعتداء عليهم, كما امتلكت عائلاتهم ما يميزها عن الآخرين ويشرع لها التعالي على السكان.
وتسببت الحرب السورية بإحداث تقسيم مغاير لما كان سابقاً, حيث قسمت المناطق بحسب القوى المسيطرة بين حكومة دمشق وفصائل المعارضة وهيئة تحرير الشام والإدارة الذاتية, وطبق في كل منطقة منها ممارسات تمييزية ساهمت بتدهور الوضع الإنساني وحرمان السكان لأبسط حقوقهم.
ففي مناطق حكومة دمشق انقسم المجتمع السوري إلى طبقتين، واحدة تعاني من فقر مدقع وتشكل نسبة 90% من تعداد سكانها والغنية بنسبة 10%, كما يعاني القاطنون في هذه المنطقة اعتقالات واعتداءات تعسفية بسبب آرائهم السياسية أو انتقادهم للأوضاع المعيشية, ويتعرض آخرون للتضيق والحرمان من حقوقهم بسبب قومياتهم، والمثال القائم هو الحصار الذي تتعرض له منطقة الشهباء وحيي الشيخ مقصود والاشرفية ذات الأغلبية الكردية حيث حرم القاطنون في تلك المناطق منذ أكثر من 5 أشهر من حقهم في الغذاء والتنقل والرعاية الصحية وتسبب الحصار بوفاة طفلين لعدم توافر المواد الطبية اللازمة وعدم سماح قوات الحكومة بدخولها، كما تسببت بسوء حال العشرات الآخرين الذين يعانون من أمراض مزمنة.
ويتعرض النازحون من عفرين إلى مناطق شمال شرقي سوريا لمضايقات على الحواجز العسكرية التابعة لحكومة دمشق أثناء الخروج من مناطق الإدارة الذاتية إلى مناطق الحكومة وفرض مبالغ مالية بالدولار عليهم, ومن جانب آخر يتعرض سكان مدينة درعا المعارضين أيضاً لتضييق من قبل القوات الحكومية وآخر من فصائل مسلحة موالية لها بالرغم من أن معظم سكانها تمت تسوية أوضاعهم برعاية روسية.
ولا تنتهي الممارسات التي تتبعها حكومة دمشق وخلق التفرقة العنصرية بين السوريين, ويعتبر أحمد خالد وهو اسم مستعار لطالب جامعي في مدينة حلب، أن حكومة دمشق تتبع العنصرية حتى في الماء والكهرباء حيث تجد أن أحياء تصلها أكثر من أخرى، ويقول لنورث برس: “العنصرية موجودة في كل شيء. هنا هي الأساس”.
لم تبذل حكومة دمشق والتي هي أحد الموقعين على الاتفاقية الدولية للقضاء على التمييز العنصري، أي جهد للقضاء على التمييز العنصري في مناطق سيطرتها, ووصلت أضرار التمييز الموجودة في مناطقها لخروج مئات الأطفال من المدارس وانتشار ظاهرة عمالة الأطفال وزواج القاصرات ومست بشكل مباشر العدالة لاجتماعية وحقوق المدنيين.
أما في مناطق فصائل المعارضة الموالية لتركيا، فاتبعت الفصائل منذ دخولها أبشع الممارسات التمييزية ضد سكان المنطقة الكرد وخاصة الإيزيديين منهم في مناطق عفرين وسري كانيه وتل أبيض, وتسببت بنزوح أكثر من 700 ألف شخص من سكان المنطقة الأصليين, ومنذ عام 2018 ترتكب الفصائل الممارسات التمييزية ضدهم, ودمرت المزارات الدينية الإيزيدية وفرضت الطقوس الإسلامية عليهم.
وتتبع الفصائل، العنصرية ضد المدنيين، حيث تعتقل السكان تعسفياً بتهمة التعامل مع الإدارة الذاتية وتعتبر هذه التهمة من التهم الجاهزة التي تستخدمها الفصائل لاعتقال أي شخص كردي يقطن في مناطق سيطرتها, وعقب الزلزال الذي حدث 6/شباط، تجلى التمييز العنصري من قبل الفصائل ضمن مناطق سيطرتها من خلال عرقلة إيصال وتوزيع المساعدات وحتى في عملية الإنقاذ.
وأشارت مصادر من ناحية بلبل في عفرين, أن الكرد في منطقة عفرين يتعرضون للتمييز العنصري من قبل فصائل المعارضة الموالية لتركيا في توزيع المساعدات وتأمين مكان الإقامة حيث لايزالون يقطنون في العراء أو في ساحات منازلهم المدمرة, في ظل الظروف القاسية والهزات الارتدادية المستمرة ودرجات الحرارة دون الصفر, بالإضافة إلى أن فرق الإنقاذ تجاهلت المناطق السكنية الكردية التي تضررت من الزلزال.
أما في مدينة إدلب وريفها الخاضع لسيطرة هيئة تحرير الشام، فيمارس أصحاب النفوذ في السلطة التمييز العنصري ضد السكان, وتتمتع عائلاتهم بامتيازات وحقوق يفتقر لها باقي السكان, كما وتمارسها السلطات على النساء في إدلب بشكل أكبر، حيث يتم استخدامهم كورقة ضغط على ذويهم، لتسليم أحد أفرادها المطلوبين للهيئة أو لتحصيل الأموال, وتمارس في المنطقة العنصرية ضد النازحين حيث غالباً ما يتم فرزهم بحسب المناطق التي قدموا منها ويتم الاهتمام بالبعض على حساب الأخرين, وبالآلية التميزية ذاتها يتم توزيع المساعدات الإغاثية عليهم.
وبالنسبة لمناطق الإدارة الذاتية، لطالما عانى سكان مناطق شمال شرقي سوريا من التمييز العنصري من قبل حكومة دمشق وحرمت مئات سكانها من الجنسية السورية وبالتالي حقوقهم, وبعد الحرب مارست كل من تركيا وتنظيم “داعش” تمييزاً ضد كرد المنطقة, حيث لا تزال الحكومة التركية تقصف مناطق شمال شرقي سوريا بحجة مكافحة الإرهاب وتستهدف الأعيان المدنية وتسببت بمقتل مئات السوريين منذ عام 2018, كما أن تنظيم “داعش” بدوره استهدف بشكل ممنهج الكرد والإيزيديين والمسيحين وأشخاص من طوائف أخرى في شمال شرقي سوريا وارتكب المجازر وجرائم ضد الاإنسانية بحقهم, حتى أنه مؤخراً، ساهمت كل من روسيا والصين بتطبيق التمييز العنصري، برفضهما دخول المساعدات إلى المنطقة واستمرار إغلاق معبر اليعربية الوحيد الذي كانت تدخل منه المساعدات الأممية المخصصة لمئات النازحين المتواجدين في 72 مخيماً.
يحظر القانون الدولي والإعلان العالمي لحقوق الإنسان واتفاقية الأمم المتحدة، نشر الأفكار القائمة على العنصرية والكراهية والتحريض على التمييز العنصري القائم على العِرق والدين والمعتقد والجنس والجنسية وحتى الطبقة الاجتماعية, انطلاقاً من أنه يحق لكل إنسان أن يعامل على نحوٍ متساوٍ بغض النظر عن انتماءاته وعرقه وجنسه وغيرها, ويعاقب القانون كل من يطبق أو يساعد في حدوث أعمال عنف أو تحريض عنصري ضد أي عرق أو أي جماعة من لون أو أصل أثني آخر, ولكن ما يحدث في سوريا هي سياسات نشأت عليها أجيال ومدة التعافي منها قد تطول بسبب آثار الحرب التي فاقمت منها وحولتها إلى كارثة.