شهر آذار بوصفه بيت الذاكرة الكردية

يكثّف شهر آذار أحلام الكرد وخيباتهم، احتفاءهم بالمناسبات وذكرياتهم ولحظات فقدهم العظيمة؛ يمكن أيضاً أن يصنّف هذا الشهر على أنه موسم تجديد الانتماء للهوية القومية. وبمعزلٍ عن مناقشة مقولات القوميين الكرد أو فوات بعضها، يضعنا الجانب الرمزي لآذار أمام لعبة استبدال واضحة، إذ يستبدل الكردي مسألة تعويض الوطن المفقود بالرموز، وهنا ستظهر الأعلام والمناسبات ونوروز وصور الشهداء والزعماء، وحتى الخرائط، على أنها التجسيد البديل لفكرة “الوطن”؛ ففي الوقت الذي أدخلت فيه الاتفاقيات والمعاهدات الاستعمارية الدولة القومية، التركية والعربية والفارسية، إلى حيّز الوجود في أعقاب الحرب العالمية الأولى، أُخرج الكرد من التاريخ. الحقيقة، استلزمت عملية الإخراج من التاريخ وسائلاً بالغة الوحشية  والقسوة وإنكار مديد للوجود، وحتى الركون إلى الإبادات وسياسات “الحل الأخير” في بعض الحالات.

ففي هذا الشهر، على سبيل المثال لا الحصر، تمرّ ذكرى مقاومة ثورة شيخ سعيد 1925، وذكرى اتفاقية الحكم الذاتي بكردستان العراق 11 آذار 1970، ثم في آذار أيضاً أصدرت بغداد عام 1974 “قانون الحكم الذاتي في كردستان”، وبعد ذلك بعام، وفي ذات الشهر، ستخنق اتفاقية الجزائر بين العراق وإيران الثورة الكردية وتجهز عليها، وفي 16 آذار 1988 قصفت بغداد بالأسلحة الكيمائية مدينة حلبجة، وفي 1992 أطلقت القوات التركية النار على المحتفلين بنوروز وأصابت 100 كردي وكردية، وقبل ذاك في عام 1986 هاجمت قوات الأمن السورية المحتفلين في عفرين ودمشق  بيوم نوروز ما أدى إلى مصرع العديد من الكرد ليشارك في جنازتهم 40 ألف كردي  وتقوم الشرطة بمهاجمتهم، في آذار أيضاً سيكون لانتفاضة 2004 الكردية موقع في الروزنامة الكردية، هكذا أيضاً سيحضر الزعماء القوميون والفنانون بوصفهم رموزاً للقومية الكردية في شهر آذار.

لكن سحر آذار بالنسبة للكرد موصول على الدوام باحتفالات يوم نوروز، رأس سنة الشعوب الآرية، فقد جعلته الحمولة القومية والسياسية الكردية، رأس سنة قومية. هكذا صاغت جمعية “تعاون وترقي كرد” انطلاقاً من العام 1910 من نوروز مناسبة قومية كردية تمييزاً عن المقولات التي تزعم أن للكرد أصولاً  طورانية مشتركة مع الترك، بذا استعيرت أسطورة كاوا الحداد ليرفعه الكرد تالياً إلى مستوى البطل القومي “الكردي”، أو “الأب” للقومية الكردية بتعبير جوردي كوركاس، وفي ذات الاتجاه سيسعى الأخوين جلادت وكاميران بدرخان في الأعوام الممتدة بين 1930 و1940 إلى تكريس الأسطورة التي أقر جلادت بدرخان نفسه بأن “هذا [العيد الوطني] كان قد طواه النسيان في كردستان التركية”. إحياء نوروز أو انبعاثه بشكله القومي كان الرد الموضوعي على مقولات الطورانيين أو الكرد الذين سعوا إلى إدماج الكرد في الهوية الطورانية، كشكرو محمد سكبان ومسعود واني اللذين سطّرا كراسين يدعوان إلى ” امتصاص، واستيعاب الكرد” وبالتالي “توحيد الشعبين (الكرد والترك) من عرق واحد”.

نجاح الأباء المؤسسين للقومية الكردية في تثبيت نوروز مناسبة قومية، وجعله من الركائز المؤسسة للذاكرة الكردية الجمعية والمتخيّلة، أفرز هوية كردية مغايرة ومستقلة عن الهويات القومية الأخرى، بذا، وبتعبير كوركاس، شكّلت “الذاكرة، والتاريخ والهوية وحدة متماسكة، إذ لا توجد هوية دون ذاكرة”، وبهذا المعنى راكم نوروز والمناسبات الآذارية الأخرى من حضور الذاكرة بوصفها المكوّن الصلب للهوية الكردية، الأمر الذي دفع الأنظمة، منذ الثمانينيات، للسعي إلى تذرير رمزية هذا اليوم إن إنكاراً لوجود الكرد، أو محاولة لاستيعابهم؛ ففي تركيا سيعتبر نوروز عيداً طورانياً موغلاً في القدم، وفي العراق ستعطّل الدوائر الحكومية لمناسبة “عيد الشجرة” الذي أقرّ يوم 21 آذار قبل أن تعدُل  مجلس قيادة الثورة عن قراره المثير للسخرية هذا، فيما سيصبح هذا اليوم في سوريا عيداً للأم ابتداءً من عام 1988، بعد أن نقل النظام السوري المناسبة من 13 أيار إلى يوم 21 آذار وجعل المناسبة عطلة رسمية.

في سوريا، مع إنطلاق حركة الاحتجاجات في آذار 2011، كانت النخب السورية المعارضة قد عرفت التأثير الواسع لحدث مثل نوروز والذكريات الأليمة لانتفاضة آذار 2004 على المجتمع الكردي، ودائماً بوصف المناسبتين جزءاً من ذاكرة كردية نشطة، على ما تستطبته مثل هذه المناسبات من قدرة على تحشيد الشارع الكردي وتعبئته، بل إن مقولات تحفيزية أخرى بدأت تدرج من قبيل أن “انتفاضة الكرد في 2004 كانت الجنين للإنتفاضة السورية في 2011″، فيما الحقيقة أن لا علاقة سببية بين الإنتفاضتين، إذ كان الكرد قبل سبع سنوات من اندلاع الاحتجاجات في درعا وحيدين في مواجهة قمع النظام، ولم يكن تحرك الشارع الكردي وقتذاك في سبيل إسقاط النظام على ما قالته الانتفاضة السورية بعد وقت قصير على انطلاقها.

بطبيعة الحال، بدأ سوريون في الدفع باتجاه مشاركة كردية أوسع في حركة الاحتجاجات، ولئن كانت المشاركة الكردية قد تنامت بالفعل وبلغت ذروتها في مختلف المناطق الكردية، فإنّها سرعان ما خفتت مع فوات الانتفاضة الشعبية السلمية والاندفاع المتعجّل نحو العسكرة وانزياحها العميق تالياً نحو الطائفيّة، الأمر الذي حذا بأوساط كردية واسعة لإبداء شكوكها بمستقبل التغيير في سوريا.

في المحصلة، تراجع الكرد عن “آذار سوريا”، فيما أبقوا على آذارهم القومي الخالص ،على ما يشير إليه الاحتفاء بالمناسبات الكردية وغياب استذكار الانتفاضة السورية، إلا على مستوى المراجعة السياسية للأزمة السورية، مع ملاحظة ما خلّفته السنوات الإثني عشر الماضية وراكمته من ذكريات أليمة في عفرين ورأس العين/سرى كانيه واتهامات وتحريض وخطب كراهية طاولت الكرد. لا يعني ذلك أن جواذب القومية تغلّبت على الهوى الوطنيّ، بقدر ما أن المفاضلة بين “الآذرين” كشفت هشاشة الوطنية السورية وعدم قدرة السوريين على صياغة خطاب متماسك يستقطب المجتمع السوري التعددي.