لا يمكن بحال التقليل من شأن الانفتاح العربي على دمشق، والتعويل على النبذ الغربي والأميركي للنظام، أو على الحيرة التركية التي يبدو أنها وفقاً للمؤشرات والتصريحات ذاهبة إلى تطبيع متكامل أيّاً كانت هوية الفائز في الانتخابات المقبلة.
حرّك الزلزال مياه التطبيع الراكدة، ورفع عن دول عربية حرج لقاء الأسد، رغم أن مسار التطبيع بدأ عملياً مع عودة العلاقات الإماراتية السورية، ولا يقاس على موقف الإمارات مواقف لبنان والعراق حيث الجواذب التي تجمع هذين البلدين بدمشق تعرّف بدلالة الموقف الإيراني، وليس بعيداً عن ذاك موقف ليبيا المبنيّ على فكرة التراجع عن الثورة على نظام القذافي، بذا تصبح مصالحة الأسد تكفيراً عن ذنب إسقاط نظام العقيد، فضلاً عن أن التطبيع التركي والإماراتي مع دمشق سرّع اتخاذ طرابلس قرارها هذا حيث أن للبلدين نفوذهما الواسعين في ليبيا، إلى ذلك تبقى سلطنة عمان صديقة كل الأنظمة ولا يمكن القياس على تحركاتها فهي في كل الأحوال تتفرّد بسياسة الأبواب المفتوحة والتي لن تبارحها، يبقى أيضاً أن لمصر حساباتها التي لا تختلف عن حسابات الإمارات في أن إعادة سوريا للبيت العربي، بعد أن أعلنت مصر أن زمن تغيير الأنظمة ولّى إلى غير رجعة.
الحقيقة أيضاً أن الدول العربية المطبّعة لم تعد في إزاء مفاضلة بين نظام ومعارضة سورية، ذلك أن المعارضة مذ سلّمت رقابها لنصال القرار التركي باتت خارج كل الحسابات العربية، ولئن كانت المعارضة قد فقدت شخصيتها وآذت الحكومات العربية المطبّعة شتماً وتقريعاً وانحيازاً لمواقف تركيا، فإنها أيضاً تمترست خلف خطاب جماعة الإخوان المسلمين وتلاشت في داخل سياسات الجماعة واصطفافاتها الإقليمية والعربية.
في وقت لاحق على الأزمة السورية درجت مقولة مفادها أن أكبر رأسمال لدمشق هي علاقاتها العربية المتصلة بما يحصل خارج سوريا، ذلك أن الريع والهبات التي جناها النظام منذ بدأ يتحكّم تدريجياً في الأوضاع اللبنانية انطلاقاً من عام 1976 ومشاركته في قوات الردع العربية وتفرّده لاحقاً بالملف اللبناني، كذلك أمن رفض دمشق مشاريع التطبيع مع إسرائيل بعد أن وقّعت دولتي الطوق، مصر والأردن اتفاقيتي سلام معها، ريوعاً مالية ومساعدات عربية. هذا فضلاً عما جناه النظام من مشاركته في حرب تحرير الكويت إلى جانب الولايات المتحدة وقوات التحالف الدولي عام 1991. وفي هذا يمكننا أن نركن إلى مفارقة يُزكيها النظام على الدوام وهي أن قوات سوريا الديمقراطية (قسد) “غير وطنية” لأنها تتحالف مع الولايات المتحدة، رغم أن مناط التحالف هنا هو محاربة تنظيم داعش مثلما كان تحالف النظام مع واشنطن قائماً على قتال قوات صدام حسين وإخراجها من الكويت.
في الأثناء يبدو أن فكرة الاستفادة من الريوع والهبات العربية انتقلت، من تدخلات النظام الخارجية، إلى ما يحصل داخل سوريا؛ ففي تفسيرات أوليّة فُهم من التلاقي الإماراتي السوري بأنه جاء في سياق التخفيف من وطأة الحضور الإيراني، ذلك أن انزواء العرب أفضى إلى تنامي دور إيران في سوريا، في معادلة قائمة على النحو التالي: القليل من العرب في سوريا يساوي الكثير من إيران. وهو ما يعني في جانبه العملي تدفق الأموال على دمشق واحتمالية أن تضطلع الإمارات ودول خليجية أخرى مستقبلاً بمهمة إعادة إعمار جزء مما دمرته الحرب، وتدفق الهبات وإسناد النظام السوري سياسياً ودبلوماسياً.
ساهم انزواء العرب وابتعادهم عن معالجة الملف السوري في تمكين تركيا أيضاً من الإمساك بطرف الأمن القومي العربي المهلهل أصلاً، وبالتالي قد تصبح عودة العلاقات العربية، في جزءٍ منها، ردّاً على أدوار تركيا وآخر نقاط قوّتها في المنطقة العربية، ذلك أن أدوار أنقرة الإقليمية تكاد تتلاشى وبقي تواجدها في شمالي سوريا التعبير الأوضح عن هذا التراجع، بالضبط كما حصل إبان هزيمة الدولة العثمانية على الجبهة العربية عام 1918 حين تجمّعت كل القوات التركية المنسحبة من الأراضي العربية في جيوب ضيّقة شمال سوريا، أو التي ستصنع منها دولة سوريا لاحقاً. يبدو أن شيئاً من هذا المشهد التاريخي يتكرر.
لا يغفل أن محاولات تطبيع تركيا وإدخال إيران على الخط، دفعت الدول العربية المعنية إلى تسريع نشاطها الدبلوماسي والبحث عن مسار عربي رديف مشفوع بحاجة دمشق إلى استعادة مقعدها في الجامعة العربية والاستفادة من العلاقات العربية الغربية التي ستساهم في تعويم النظام دولياً، وإن على جرعات، ويأتي كل ذلك في ظل التراجع المزمن لأهمية سوريا في الاستراتيجية الأميركية، واكتفاء واشنطن بالتنديد بالمطبّعين مع الأسد، فيما يبقى تركيزها مشدوداً إلى الأزمة الأوكرانية وتعقّب الصين كتفضيلين استراتيجيين مقابل “التفضيل” السوري قليل الأهمية.
في الميزان، يبدو الطريق إلى التعويم سالكاً أكثر من أيّ وقت مضى، وهي طريق مفروشة بمصالح متقابلة وأقرب إلى “أوتوستراد” في اتجاهين؛ فالحضور العربي في سوريا بات يعني تعزيز “أمن الأنظمة العربية” بما يمثّله من رديف لفكرة الأمن القومي العربي، في حين تحتاج دمشق إلى استعادة ممتلكاتها، مقاعدها وسفاراتها والأهم من ذلك استعادة شرعيتها العربية والاستفادة من الهبات والريوع والتدفّقات المالية التي ستعيد التأسيس لشرعية النظام الداخلية.
لا تهم، والحال هذه، مصلحة السوريين وما يتصل بها من وصول إلى حلّ سياسي وانتقال ديمقراطي مبنيّ على قرارات أممية ودولية، ذلك أن التطبيع لا يسري وفق مشيئة الشعوب، هذه بداهة تكشفها الأخبار والمتابعات، لكن داخل هذا المشهد يبقى أن المعارضة السورية بتهتك نسيجها الضام وارتهاناتها وفسادها إنّما تسرّع التطبيع بدل تعطيله أو تأخيره، ليبقى أداء المعارضة، وكثير المعارضين، مبنياً على افتعال نوبات الغضب وشتم المطبّعين والكلام عن أشياء غرائبية من قبيل “الثورة المستمرة” و”نموت ولا نستسلم” وسوى ذلك من خطابات ولافتات تفتقر إلى أي محتوى أو مضامين سياسية.