الزلزال السوري مقدمة لكوارث لاحقة

يدفع القصور المرافق عادة للكوارث الطبيعية الحكومات والدول إلى إعادة حساباتها حيال أنظمة الطوارئ والإغاثة، وصولاً إلى إعادة النظر في منظومة العمران. غير أن الأمل في مراجعات مماثلة يتلاشى في بلد مقسّم ومنقسم يعاني حرباً أهلية مزمنة مثل سوريا.

تخضع حياة السوريين حتى في الظروف الاستثنائية، كما في حالة الزلزال الأخير، لمزاج أنظمة السيطرة بحكم الأمر الواقع ومشغّليها، تبعاً للسياسات الأمنية، ويعني هذا بعبارة أدق  ألّا مكان للبعد الإنساني حتى وإن حالت البلاد إلى ركام والبشر إلى أشلاء.

ولعل أشد صور الفساد قتامة، وأكثرها انحطاطاً، ذلك الفساد الذي يواكب حلول الكوارث الطبيعية، وهو ذات الفساد الذي يحُول دون وصول المساعدات إلى مستحقيها.

بالنظر إلى طبيعة القوى المسيطرة في المناطق المنكوبة غربي سوريا، يمكننا إدراك الإفادات التي تتحدّث عن حصول سرقات، وممارسة آليات ممنهجة تستقطع عبرها الجهات حاملة السلاح المساعدات لصالح عناصرها. هذا الوضع  يحيلنا في الواقع إلى وجود جريمة قد ترقى في حدّتها جرائم الحرب.

قريباً من ذلك كان إرسال الإدارة الذاتية مشتقات نفطية ومواد إغاثية إلى المدن المنكوبة في مناطق سيطرة المعارضة، وكذا مناطق سيطرة النظام، تعبيراً فعلياً عن التضامن الوطني، ولا يهم هنا البحث في ما وراء القرار. ما يهم فقط هو أنه كيف يمكن البناء على خطوة كهذه مستقبلاً.

لكن المثير في هذا الإطار هو رفض المساعدات من قبل سلطات المناطق المنكوبة على حساب مصلحة السكان المفجوعين، بالتالي التقليل من فرص منح السوريين التقاط بصيص أمل بالتزامن مع موت كان يمكن تحويله إلى نوع من الحياة.

كان من المتوقّع أن تخضع مساعدات شمال شرقي سوريا إلى المناطق المتضرّر لدورة الفساد والسرقة، إلّا أن تغليب رفض إدخالها في لحظة الذروة وتفاقم الحاجة إليها إنما نبع من حسابات سياسية يأتي في مقدّمتها الإمعان في عزل الإدارة الذاتية عن بقية المناطق السورية، وتحجيم موقفها الأخلاقي من منكوبي الزلزال.

فيما المفارقة تكمن في أن الأطراف السورية التي رفضت المساعدات، تسعى إليها في أوقات أخرى تحت وطأة حاجاتها وتسييراً لمصالحها، بل وتعيّن وسطاء للحصول على المشتقات النفطية.

في مقلب “الحكومة المؤقّتة”، برزت تعليقات الرفض على لسان رئيس الحكومة عبدالرحمن مصطفى، الرجل الذي لا يعرفه السوريون، أو بمعنى أدق تعرفه الحكومة التركية، إذ بدا أقرب إلى المترجم منه إلى المسؤول عن كيان إداري أوجدته حاجة تركيا في شمال غربي سوريا.

ترجم مصطفى الأوامر التركية للميليشيات ورفضها دخول المساعدات إلى المناطق المنكوبة، ودائماً عبر كيل اتهامات لقوات سوريا الديمقراطية، ومحاولة التفتيش في نوايا مرسلي الإغاثة، والطبيعي أن موقف رئيس المؤقتة، وأطنابه من “معارضين”، قوبل باستهجان السوريين الذين وجدوا في كل مساعدة إنقاذاً لأروح المزيد من السوريين، بل إن بعض المعارضين ممن استبدّت بهم مشاهد الدمار والموت العميم ذهبوا إلى رجاء الحكومة المؤقتة قبول مساعدات شمال شرقي سوريا، بعد أن فشلوا في إقناعها.

لاحقاً وتحت الضغط والحرج وتعثّر وصول الإغاثات الدولية، ستوافق الحكومة المؤقتة على دخول المساعدات المقدّمة من “العشائر والمدنيين” في شرق الفرات.

لكن لا يمكن النظر إلى الموافقة إلّا بوصفها موافقةً تركية، إذ لا يمكن تصوّر أن الضغط الشعبي واتصالات شخصيات معارضة وأخرى عشائرية دفعا المؤقتة إلى الموافقة، وفي مجمل الأحوال أصدرت الإدارة الذاتية تعليمات فتح جميع المعابر أمام حركة المساعدات، فقد نجحت نهايةَ المطاف في تمرير مساعداتها، وبناءً عليه قبلت الإدارة الذاتية “الفتوى السياسية” وتقبّلت تذاكي الحكومة المؤقتة التي سوّفت قبول المساعدات بذريعة أنها مقدّمة من العشائر ومدنيي شمال شرقي سوريا، وبذا تخلّت الإدارة الذاتية عن حقها في أن تحمل القافلة شعارها (اللوغو) سدّاً للذرائع.

بدوره بدا النظام لامبالياً في تعامله مع قوافل المساعدات والإغاثة من شمال شرقي البلاد المتوجهة إلى مناطق سيطرته ورفضه إدخالها، دون تبيان الأسباب الموجبة لعرقلة مسيرها، بيد أن المساعي لإرسال فرق الهلال الأحمر الكردي والمساعدات الطبية والإغاثية إلى حي شيخ مقصود المنكوب بحلب تكلّلت بالنجاح.

لكن في المقابل، أفرزت كارثة الزلزال انقساماً حميداً أيضاً، إذ ظهر إلى سفح الحدث سوريون نبلاء تساموا على التقسيمات التي تفرضها السياسة والأجندات الإقليمية، سوريين في الداخل والدياسبورا جمعوا المساعدات وتحرّكوا على الفور مدفوعين بكل ما هو إنسانيّ، وآخرين أصروا على السقوط الأخلاقي والتمييز بين الضحايا على أساس المنطقة والقومية، ففي تركيا مثلاً جرى التمييز في كثير الحالات بين المنكوبين السوريين والأتراك، وفي جنديرس جرى التمييز في مساعدة المنكوبين على أساس قومي، وفق شهادة مصوّرة لضحايا، حدث ذلك أيضاً في آليات توزيع الخيام والطعام والخدمات الإسعافيّة وحرمان الكرد منها. 

على الجانب التركي كان لهول الكارثة دورها في تقليص هامش حضور الحسابات السياسة لصالح دور وقوّة المجتمع، لذا برزت “دبلوماسية الكوارث” مرة أخرى، إذ ستشهد تركيا وصول فرق إنقاذ والمساعدات من عدوّتيها التقليديتين، اليونان وأرمينيا، إذ أن من شأن رفض الحكومة التركية لأي مساعدة خارجية أثره في تحميلها المزيد من المسؤوليات التقصيرية إزاء تعاملها مع الكارثة ومعاقبتها في الانتخابات المقبلة. والعكس مما حصل في تركيا شهدته سوريا، ليس على المستوى الخارجي فحسب، إنما على المستوى الداخلي أيضاً، إذ كرّست مناطق سيطرة النظام  والمعارضة جميع أشكال القطيعة بين المناطق السورية، مطمئنةً إلى أنها ستسلم من المساءلة.

بكثير من التشاؤم يمكننا الحديث عن الكوارث القادمة التي خلّفها الزلزال، إذ ستستمرّ الحرب على أي حال، ويطال الفساد والسرقات الإغاثات والمساعدات، وتتراكم مشكلات الناجين وتتفاقم حاجاتهم إلى المسكن والغذاء والدواء. والأقسى من ذلك ستبدأ دورة الألم المديدة الناجمة عن الفقد وخسارة الأحبة.