المناقبية في العمل السياسي

تعد ظاهرة كثرة الأحزاب والكتل والتيارات السياسية لافتة في سوريا،خاصة خلال الأزمة الراهنة التي تعصف بالبلاد. والسبب في ذلك يعود من جهة إلى الماركات السياسية (الزعامات) التي تترأس هذه التنظيمات السياسية، ومن جهة ثانية  الافتقار إلى النضج السياسي الناجم عن مفاعيل الاستبداد المزمن في الحياة الاجتماعية والسياسية السورية، وافتقار الفواعل السياسية بصورة عامة إلى المناقبية السياسية.

والمناقبية التي نقصدها ليست نوعاً من الرهبنة السياسية، بقدر ما تعني تطابق الفعل مع القول، واتساق الموقف السياسي مع الموقف الفكري، والشفافية والمصداقية في العمل السياسي، والإقرار بالاختلاف والحق فيه والحق بالدفاع عنه كمبدأ موجه لمجمل الحياة السياسية. المناقبية بهذا المعنى هي أحد العوامل الحاسمة في تكوين المناخ السياسي الجاذب للعمل الوطني الديمقراطي المعارض للاستبداد في سوريا، وبغيابها تكون السياسة مجرد شعوذة.

لنأخذ على سبيل المثال الموقف من الدور الذي تؤديه القوى الخارجية في سوريا، إذ تكاد تتفق جميع القوى السياسية السورية على أهمية دور العامل الخارجي في الأزمة السورية، مع أنها تتمايز من حيث طبيعة هذا الدور والمدى الذي يذهب إليه.

القوى التي تدعي الليبرالية، وأغلب قوى الإسلام السياسي طالبت بالتدخل الخارجي المباشر، الغربي تحديداً، لإسقاط النظام، وعندما لم يحدث ذلك انتقلت من المجاهرة في دفاعها عن قناعتها بالدور التحريري الديمقراطي للدول الغربية إلى ممارسة التقيّة؛ ففي العلن أخذت تنتقد السياسيات الغربية في المنطقة، وفي الحوارات “المغلقة” استمرت في المطالبة بدور أكبر للخارج في إنجاز التغيير في الداخل لأن الرهان على قوى التغيير الداخلية يقارب الوهم، بحسب زعمها.

في الجهة المقابلة، تقف مجموعة أخرى من المعارضين يحلو لها التعريف عن نفسها باسم المعارضة “الوطنية الديمقراطية”، ويكاد يكون الموقف من الخارج هو أيضاً البوصلة التي توجه عملها في الحقل السياسي لكن بالمقلوب. الخارج هنا شر مستطير، هو الخطر كله، وفي تخصيصه وتكثيفه من قبلهم، يتماهى مع المشروع الصهيوني في المنطقة، ووفق هذا المنطق تصبح العولمة “مشروع أميركي للهيمنة”، وتصبح المتغيّرات الدولية التي ساهمت في دفع قضايا الحرية والديمقراطية إلى مقدمة الأجندة الدولية، وفي العمل السياسي الداخلي في كل بلد، وبطبيعة الحال في سوريا، نوع من الاستجابة لسيطرة المشروع الغربي للهيمنة.

في المواقف المتطرفة “يساراً” لأغلب القوى “الوطنية الديمقراطية”، فإن المهمة الرئيسة التي ينبغي أن يتمحور حولها النضال السياسي في هذه المرحلة، تتمثل في ضرورة العمل ضد “الرأسمالية المتوحشة وسياساتها”، حتى ولو كان ذلك على حساب تأجيل البحث الجدي في القضايا الداخلية المتعلقة بإنجاز التغيير الديمقراطي.

وفي المواقف المتطرفة “يميناً” لبعض قوى “الوطنيين الديمقراطيين” يصير الاستبداد “وطنياً”، و”ممانعاً”، وبالتالي لا يجوز إحراجه من خلال مطالبته بإجراء إصلاحات عميقة في بنية نظامه، وفي الحياة السياسية والاقتصادية للبلد، والاكتفاء بمراقبة ما يقوم به من “إصلاحات” شكلية، أو “نقدها” بصورة مضبوطة، مع أنها في جوهرها ليست أكثر من إجراءات لتعزيز استمرار الاستبداد.

وإذا كان “الليبراليون” يتمحورون حول قضايا التغيير الديمقراطي في الداخل بصورة رئيسة، معوّلين في إنجاز ذلك على دور الخارج في تحقيقها، فإن “الوطنيين الديمقراطيين” يتمحورون حول قضايا مقاومة المشروع الغربي الصهيوني، وتحرير سوريا، معولين على دور المقاومة والممانعة في تحقيق ذلك.

لا ضير من وجهة نظر “الليبراليين” السوريين في الداخل من ممارسة التقية في الموقف من السياسات الغربية عموماً تجاه المنطقة، أي ممارسة النقد لها، مراعاة للمزاج العام، فيما يشبه العتب لا أكثر، في حين يتم تأييدها فعلياً، بل إقامة الروابط والتحالفات السياسية مع القوى العربية والإقليمية الداعمة لها، وتشكيل مجموعات عمل في الخارج لتأليب الخارج ودفعه للتدخل في الشؤون الداخلية لسوريا بذريعة الضغط على النظام الاستبدادي لدفعه للتغيير، بل للسقوط بغض النظر عن العواقب المحتملة لهذا السقوط.

من جهة أخرى لا يضير “الوطنيين الديمقراطيين” ممارسة التقية في الموقف من الاستبداد ومن قضايا التغيير الوطني الديمقراطي الداخلية الملحة والضرورية، والاكتفاء بتوجيه النقد “المعاتب” له، والتعويض عن ذلك بنقد المشكلات الاجتماعية وانتشار الفساد وضيق الحالة الاقتصادية لكن بما لا يهدد أسس الاستبداد ذاته.

وفي المحصلة، لا اختلاف جدي بين أطراف المعارضة السورية من ناحية سلوكها السياسي، ومن حيث اشتغالها على العناوين والشعارات، بدلاً من البرامج والرؤى الشاملة؛ فأغلبها للآسف أدوات قديمة تفتقر إلى المناقبية السياسية، تمارس التقية في أطروحاتها.

بقي أن نشير إلى فئة ثالثة من المعارضة السورية يفترض بها أن تجمع بين إيجابيات من يدعون أنفسهم بـ”الليبراليين”، وإيجابيات من يدعون أنفسهم بـ”الوطنيين الديمقراطيين”، وتتميز في الحقل السياسي بمناقبية عالية، سواء في المواقف والرؤى السياسية أم في السلوك السياسي اليومي، وتشتغل على برامج سياسية واقتصادية واجتماعية وغيرها، وليس على شعارات عامة تفتقر إلى التحديد والتعيين. هذه الفئة لا تزال بعيدة عن تشكيل قوة  أو تيار وطني شامل، ورغم أن عناصر هذه الفئة موجودة في جميع أطياف المعارضة السورية في الداخل وفي الخارج، وبين المشتغلين في الحقل الثقافي، والمهتمين بالشأن العام، فإن العمل على بلورة تيار وطني ديمقراطي حقيقي وفاعل، يعبر عنها، يمثل ضرورة تاريخية لتجاوز سوريا أزمتها وإعادة بنائها على أسس الديمقراطية والعلمانية واللامركزية.