قبل أن تتبنى ألمانيا النازية وتطبّق نظرية “المجال الحيوي”، كان الفيلسوف الإيطالي جيوفاني جنتيلي والزعيم الفاشي بينتو موسوليني قد تبنيا هذه النظرية،حيث أن الدولة الفاشية تقوم على ثلاث دعامات هي: معاداة الليبرالية، ومعاداة الماركسية، وأخيراً معاداة الأمم الأخرى. ذلك أن الأمم الأخرى تعادي نزعتها التوسّعية، الأمر الذي يفرض على إيطاليا اتباع مضامين نظرية المجال الحيوي وتوسعة رقعة سيطرتها واحتلالها، وبذا تحوّلت نظرية المجال الحيوي إلى عقيدة تأسيسة للدولة الإيطالية.
لكن هتلر شرح عقيدة المجال الحيوي بشكل أكثر وضوحاً؛ ففي إبريل/ نيسان 1939 أعلن الزعيم النازي، في معرض ردّه على برقية السلام التي أرسلها له الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت، أن المشكلات الدولية يمكن أن “تحل سلمياً عبر المفاوضات”. كان ثمن المفاوضات و”الحلول السلمية”، وما نجم عن معاهدة ميونخ عام 1938 بين ألمانيا وبريطانيا وإيطاليا وفرنسا، باهظاً، ذلك أن نتائج التسوية أفضت إلى ابتلاع ألمانيا لتشيكوسلوفاكيا نزولاً عند مزاعم هتلر عن عائدية إقليم السوديت لها، ذات الأمر تحقّق بين فرنسا وتركيا، وفي الفترة الزمنية نفسها، إذ ستُقدّم فرنسا لواء الاسكندرونة هدية للأتراك رغبة في تحييدها عن مجرى الصراع والإبقاء على الاستقرار في شرق المتوسط. كان سلام الأقوياء يُصنع من لحم الشعوب وعلى حساب جغرافيتها.
وتعود جذور نظرية المجال الحيوي، أو ليبنسراوم (تعني بالألمانية مساحة المعيشة)، إلى العالم الألماني فريدريك راتزل الذي عبّر عنها في كتابه “الجغرافية السياسية” عام 1901، والتي يمكن تلخيصها في أنها تعبير عن حق الدول، المتحضّرة المتطلّعة للنمو، في ضم واحتلال الأراضي والأقاليم ذات القيمة الاقتصادية.
دفع تبنّي تركيا لعقيدة “الوطن الأزرق” القومية المتطرفة العديد من الأصوات، لاسيما في اليونان، إلى استحضار نظرية المجال الحيوي النازية لوصف هوس التوسّع التركي نحو بحار المنطقة، ذلك أن مفهوم الوطن الأزرق الذي صاغته الحكومة التركية لدواعٍ دعائية وتوسّعية يجافي القانون الدولي الذي لا يُطلق على البحار المحيطة بالدول اسم “وطن” إنما يُبقي على اسمها القانوني “الحدود البحرية”. ولعل تداول واستعادة نظرية المجال الحيوي، سيئة السمعة، ازداد في معرض وصف النزوع التوسعي التركي برّاً وبحراً، بل وفي الفضاء أيضاً، على ما وعد به أردوغان من خلال الدفاع عن “الحقوق السيادية لتركيا من الفضاء وحتى الوطن الأزرق”. بذا أصبحت لغة السياسة الرسمية تماثل ما تبنّته ألمانيا النازية، وربما عن دون وعيّ، كما في حالة التأكيد على الحقوق التاريخية لتركيا في العراقين الكردي والعربي، وشمالي سوريا، وكذا في رغبة تركيا مفاوضة اليونان على إعادة صياغة اتفاقية لوزان 1923، فضلاً عن تكريس الحكومة التركية الحالية تقسيم قبرص ودعمها الأصوات الرافضة لفدرلتها، فشمال قبرص في الوعي القومي التركي هو أقرب لصورة إقليم السوديت في الوعي القومي الألماني المتطرّف.
يكاد التجسيد الأشد تطرّفاً لهذه النظرية يتمثّل في احتلال أجزاء من الشمال السوري واعتبار بعضها أراضٍ لم تتنازل عنها تركيا وفق ماحددته وثيقة “الاتفاق الملّي” عام 1920، ولعل الإيمان القومي التركي العميق بهذه الوثيقة، وإمكانية فرضها بحكم الأمر الواقع، ينبئ باحتمال استدامة الاحتلال التركي وتطوير آليات قضم المزيد من الأراضي السورية.
وفي حوزة المتابع الكثير من التصريحات الرسمية التركية التي تحدّد مرامي وغايات أنقرة من التدخل العسكري وإقامة كانتونات عسكرية ومستوطنات تعيد توزيع السكان في الشمال السوري، من جملة ذلك ما قاله الرئيس التركي أردوغان عن أن الكرد لا يمثّلون أغلبية سكان عفرين قُبيل احتلالها وأن “العملية العسكرية” ستعيد المنطقة لأصحابها الحقيقيين، وهو ما يعني أن عفرين كانت أرضاً بلا سكان أصليين، يجب أن يسكن فيها آخرون يؤمّنون لتركيا ثلاث غايات: الولاء غير المشروط، والتخفف تالياً من وطأة أزمة اللاجئين على أراضيها، والأهم من ذلك تجريف البنية السكانية الكردية المُقلقة. ذات الأمر حدث في رأس العين/سرى كانيه وتل أبيض إذ هي مناطق، ودائماً بحسب أردوغان، “لا تناسب حياة الكرد”، أي أن الاستيطان في هذه المناطق يجب أن يكون “استيطاناً إحلالياً”، وهذا بالضبط هو التطبيق الصارم لنظرية المجال الحيوي.
في مؤتمر ميونخ آنف الذكر، لم تفضِ الصيغة الهشة والرديئة لصناعة السلام، إلى أيّ سلام، بل على العكس من ذلك كانت سياسة ممالأة النزوع التوسّعي النازي السبب المباشر لاندلاع الحرب العالمية الثانية، وبالمعنى المشابه كان توهم روسيا والولايات المتحدة بإمكانية استيعاب تركيا واحتواء تطلّعاتها، في غرب الفرات وشرقه، تكراراً لخطأ ميونخ، ذلك أن مجال تركيا الحيوي أوسع مما قدّم لها في شمال سوريا، فهو يشمل كل مناطق تواجد الكرد التقليدية بوصفها “تركة دولة الأسلاف العثمانية”، ويشمل إلى ذلك المناطق العربية التي يمكن تتريك سكّانها. وعليه تبدو تركيا متحفّزة لتوسيع سيطرتها وإطلاق التهديدات المتواصلة دون أن تُقنعنا روسيا وأميركا بالجدوى الفعلية لصيغ إرضاء تركيا السابقة على حساب وحدة سوريا ومصائر سكان المناطق المحتلّة.
بطبيعة الحال لن يؤدي إفساح القوى الدولية المجال أمام تركيا لتطبيق تجربتها المخيفة لعقيدة المجال الحيوي في سوريا إلى حرب بين القوى الكبرى، لكن إفساح المجال هذا سيغذّي الحروب في المنطقة ويقوّي من النزعات المتطرّفة ومن السياسات الرامية إلى إعادة رسم خرائط الدول وفق منطقي القوّة والغلبة، وحقيقة الأمر أن كلّ “لا” تقولها الولايات المتحدة وروسيا في مواجهة التهديدات التركية إنما يساهم في احتواء الأزمة السورية، ويساهم في تعطيل هذه العقيدة المرعبة.