التهديدات التركية حقيقية أم ورقة انتخابية؟

عادة ما يشكل عنصر المفاجأة في الحروب عاملاً أساسياً يحدّد هوية المنتصر في معظم الحروب السريعة، ويرسم ملامح مجرياتها، إلاّ في حالات التفوق العسكري التام كما في حالة حرب الخليج الثانية حيث تفوق الأمريكان والتحالف الدولي الكاسح على العراق، دفعهما لعدم إيلاء المفاجأة أي اهتمام وعدم السعي لإخفاء تحضيراتهما، أما في الحالة التركية فالوضع مختلف تماماً، وهو لا يرتبط بمنطق القوة  والضعف، إذ إن تعدد القوى المنخرطة في مناطق شرقي الفرات يدفع الجيش التركي عبر قيادته السياسية والعسكرية للإعلان مسبقاً عن النوايا القادمة تجنّباً لأي إحراج انطلاقاً من مبدأ الحرص على عدم الاصطدام بتلك القوى أو أي احتكاك بها.

كثيرة هي التهديدات التركية بشن عمليات عسكرية على شرقي الفرات، وقليل هو ما تم تنفيذه، ليس لضعف مقدرات الجيش التركي، لكن لأن أي عملية عسكرية في منطقة تتواجد فيها الكثير من الرايات الدولية تحتاج لتوافقات سياسية وعسكرية مسبقة.

أعلنت تركيا في عام 2021 عن عملية عسكرية تعيد تحقيق الأهداف التي أرادتها في عمليتها السابقة “نبع السلام 2019″، بذريعة أن التعهدات الأمريكية والروسية لأنقرة بانسحاب قوات سوريا الديمقراطية “قسد” لمسافة 30كم عن الحدود التركية لم تتم، لكن الرفض الأميركي والروسي لتلك العملية حال دون تنفيذها، لتعاود أنقرة في مايو/أيار 2022 التهديد بعملية عسكرية تشمل مناطق تعتبرها أنقرة أنها لا تزال تشكل بؤرة تهديد مستمرة لها، في منغ وتل رفعت ومنبج وكوباني/عين العرب، لكنها أيضاً اصطدمت برفض أمريكي وشروط روسية لا قدرة لأنقرة على الرضوخ لها؛ فألغت العملية مجدداً. مع العملية الإرهابية التي طالت شارع الاستقلال في منطقة تقسيم باستانبول، ووجهت الاتهامات التركية فيها للعمال الكردستاني وقسد، أعلنت تركيا عن بدء استعداداتها لعمية عسكرية برية تُكمل عمليتها الجوية “المخلب_ السيف”، ولكن هذه المرة اصطدمت تركيا بأربع “فيتوهات”، أميركية_ روسية_ إيرانية وأوروبية، وكان اللافت أن التهديدات التركية قابلها دعم أميركي منقطع النظير لقوات سوريا الديمقراطية، وتدريبات مشتركة ومناورات برية بين قوات التحالف الدولي وقسد.

وفي خطوة سياسية واضحة، تقاطرت الوفود والشخصيات السياسية إلى شرقي الفرات لتلتقي مع قيادات قسد ومسد لتعطي رسالة واضحة لأنقرة أن الاهتمام والدعم الغربي لمناطق شرقي الفرات لا يشمل القطاع العسكري فقط، بل أن هناك دعم وأهداف سياسية يسعى الغرب لتحقيقها عبر تواجده في تلك المنطقة، وفي إشارة واضحة ورد عن أحد مفرزات اللقاء الثلاثي في طهران، الذي جمع رؤساء روسيا وتركيا وإيران، أن المجتمعون طالبوا بضرورة انسحاب القوات الأميركية من شرقي الفرات على اعتبارها حجر عثرة أمام تحقيق الحل السياسي الذي تنشده تلك الدول في سوريا.

بالعودة للتصريحات التركية، التي زاد حجمها وزخمها مؤخراً، بات الشارع السوري يصحو وينام على تلك التصريحات التي تتحدث عن قرب ساعة الصفر، رغم أن العوامل التي منعت قيامها منذ ثلاثة أشهر ما تزال قائمة، والأبواب الموصدة بوجه العملية التركية ما زالت على حالها، بل زاد إصرار أصحابها وقناعتهم بأن أي عملية تركية في شرقي الفرات ستؤثر على استقرار المنطقة، وستعيق عمليات الحرب على الإرهاب، وستضر بقوات التحالف الدولي المتواجدة على الأرض. غير أن المتابع للوضع السياسي في تركيا يُدرك تماماً أن تلك التصريحات لا تسعى للحرب أصلاً، إنما يسعى التلويح بالحرب على العمال الكردستاني إلى جذب الناخب التركي، وبما يؤثر بنتائج الانتخابات، وبالتالي إعادة الطرح مع الاقتراب من موعد الانتخابات أمر لا بد منه، كما هو الحال مع عملية المصالحة التركية مع الأسد، التي جاءت في وقت غير متوقع من جانب أنقرة حيث أنها تؤمن أيضاً مرابح سياسية وانتخابية، وبالتالي فإن كل سيناريو التهديدات التركية، والمصالحة مع الأسد، قد تكون مناورات انتخابية للرئيس أردوغان يستطيع من خلالها سحب أوراق انتخابية، وملفات ضاغطة، من يد خصومه السياسيين، وتهدف لتحسين النتائج التي ستفرزها الانتخابات القادمة، لاسيما وأن استطلاعات رأي الشارع التركي لا تريح الرئيس أردوغان ولا حزبه الحاكم، بعد أن كانت الانتخابات السابقة تمر بكل سلاسة وتحقق لأردوغان ما يريده من خلال  حاضنة وزخم شعبي منقطع النظير، لكن في السنوات الأخيرة بدأت تلك الأرقام بالتراجع مع تراجع قيمة الليرة التركية ومع تراجع مؤشرات الاقتصاد التركي الذي ترافق مع انعطاف تركيا نحو الشرق، نحو روسيا وإيران إثر شبه صدام مع أوروبا والولايات المتحدة والناتو.

إن اللعب بالأوراق السياسية، وإطلاق التصريحات الاستفزازية ليس غريباً في موسم الانتخابات؛ فالكل يبحث عن الربح ويسعى لامتلاك أوراق رابحة، وعليه فإن التهديدات التركية قد تأتي ضمن هذا الإطار ولا غرابة، لكن الغرابة أن هناك من بات يرسم خرائط جديدة، ويطرح الحلول، ويتبنى مشاريع بناءً على ما يمكن أن تفرزه تلك العملية العسكرية وحتى قبل وقوعها، وأحد هؤلاء خرج على إحدى الشاشات ليحدثنا عن محاور العملية ومواقعها وبلداتها ومسارحها وتوقيتها ولم يبق إلا أن يخبرنا عن عدد القتلى والجرحى وعدد الطلقات المستهلكة!

السياسة لها عدة أوجه وهي تخضع للتغيير، وقد تكون تغيّراتها سريعة ومفاجأة وغير متوقعة، ومن البديهيّ أن عدو اليوم قد يكون صديق الغد والعكس صحيح، والمبادرات والأفكار التي تطرح فيما يخص القضية السورية ومناطق شرقي الفرات متعددة، وقد تتغير التموضعات والتحالفات، وبالتالي يجدر التذكير بما حمله جيمس جيفري، ورغم الرفض التركي لما جاء به، ما زال مطروحاً، وقد أُعيد طرحه خلال زيارة وزير الخارجية التركي لواشنطن مؤخراً، والعرض الأميركي ذاك يتلخّص باستبدال الحروب بتوافقات سياسية وعسكرية ترضي جميع الأطراف وتهدئ الجبهات، وأن توافق القوى العسكرية والسياسية في المناطق غير الخاضعة لسيطرة الأسد ستعود بنفع سياسي وعسكري واقتصادي لتلك القوى، لكن تبقى الثقة بين أنقرة وواشنطن مفقودة، وعندما تستعاد تلك الثقة قد تعود الأدراج في أنقرة لتفتح من جديد وتقرأ أوراق المبادرات مرة أخرى، وقد يعود جيمس جيفري أو يرد أنتوني بلينكن الزيارة لأنقرة.

بقي القول: إن الشعب السوري على كامل الجغرافية السورية، وعلى مدار 12 عاماً، أثخنته الحرب موتاً وقتلاً ونزوحاً وتهجيراً، وأنه  يسعى للاستقرار، مع الثبات على الحقوق، ولم تعد له طاقة على استمرار الحروب، والوقت الذي يتمّ انفاقه اليوم للاستعدادات والتحضيرات والتدشين والتحصين للحروب، من الأفضل أن يُنفق على إعادة اللاجئين لقراهم وبلداتهم وبيوتهم ووقف عمليات التغيير الديموغرافي وسرقة العقارات خاصة من قبل ميليشيات إيران.

يبحث السوريون في هذه الأثناء عن بوادر لحلول ومشاريع وقف الحروب، والتخلص من منظومة الاستبداد في دمشق، ليؤسس لورش البناء وإعادة الحياة وبدء بناء سوريا المستقبل، التي تضم الجميع تحت سقف الوطنية السورية، وتعيد اللُحمة لشعبها ونسيجها الاجتماعي الذي مزقته الحروب. ولعل السوريين يتطلعون ويناشدون كل الأخوة والأصدقاء والحلفاء، الشروع بوضع مبادرة وحل شامل ينصف كل المكونات السورية، ويعيد دماء الحياة للشرايين السورية التي قطعتها صواريخ الطائرات وحمم الدبابات وشظايا براميل الموت, بكلمات أوضح: الشعب السوري يريد أن يعيش بحرية ولم يعد يطيق التهديدات بشن حروب جديدة.