حكاية حليب الأطفال المفقود في مناطق سيطرة الحكومة

دمشق/ حلب/ درعا ـ نورث برس

تغيرت النداءات والاستغاثات كثيراً طوال فترة الحرب السورية، بدأت عام 2011 الاستغاثة لآجار منزل بسعر معقول، وفي 2015 و2016 باسم مهرب لينقل البعض إلى خارج البلاد، وفي 2020 وحتى اليوم غاز/ مازوت بنزين، كهرباء، حتى وصلت نهاية 2022، وبداية 2023 إلى لقمة الأطفال الرضع وحديثي الولادة، إنها أزمة حليب الأطفال.

نهاية تشرين الأول/ أكتوبر العام الماضي، بدأت أزمة حليب الأطفال في مناطق الحكومة السورية على شكل نقص في المادة لشركة “ناسلة”، تحديداً، كونها الأكثر طلباً ويتم استيرادها بشكل نظامي.

وبعدها بدأت تفقد الأنواع الوطنية الأخرى، ما أثار سؤالاً تضمن: “ماذا تفعل الأسر التي لديها رضع وأطفال حديثي الولادة؟ وكم يحتاجون من تكاليف اليوم للحليب فقط إن وجد؟”.

بالرفع تحل المشاكل!

بدي علبة حليب نان 1 شو ماكان سعرها ابني جوعان”، “بدي علبة حليب أي نوع وطني أو أجنبي”، هذه هي الطلبات التي تقرأها الناس في مناطق سيطرة الحكومة السورية، البحث عن أدوية وحليب أطفال، الحليب المفقود منذ 4 أشهر البحث عن علبة لطفل جائع كالبحث عن “إبرة في كومة قش”.

تحتاج سوار علي (33 عاماً) وهي من ريف حمص، ولديها طفلةعمرها 7 أشهر، إلى مئتي ألف ليرة ثمن حليب أطفال شهرياً.

وتقول لنورث برس: “لم تعد القضية متوقفة على السعر بل على الحصول عليه، وعند انقطاع الناسلة أي النان، وهو الماركة الأجود والأكثر أماناً للأطفال، أجبرت على اللجوء للأنواع الوطنية”.

ومع ذلك تتحدث الأم الثلاثينية عن دخول حليب الأطفال إلى “دائرة الحرب الاقتصادية، ودائرة الاحتكار”، حتى وصل بها الأمر إلى شراء علبة حليب بـ40 ألف ليرة سورية الشهر الماضي.

وقبل يومين، أعلنت وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك عن رفع سعر حليب الأطفال ماركة ” نستله” ليصبح 18800 ليرة للمستهلك، وماركة كيكوز 15300 للمستهلك، على أمل أن يكون الرفع بداية خط التوفر لطعام الأطفال.

“الموضوع حساس”

يتحدث عادل محمد (55 عاماً)، وهو اسم مستعار لصيدلي في دمشق، أن المسألة في قصة حليب الأطفال “تتعلق بالاستيراد والقوانين الجائرة التي يعاني منها المستوردون، من ضرائب عالية وحصر الاستيراد بأشخاص محددين في غالب الأمر مقربين من السلطة السياسية”.

وما سبق دفع لفتح سوق أخرى وهي السوق الحرة فأصبح الحليب يدخل من لبنان مثل المازوت، لكنه أيضاً “غير آمن 100% للأطفال”، بحسب ما قال “محمد” لنورث برس.

وعن رأيه فيما إذا كان رفع السعر سيوفر المادة قال: “بالطبع سيوفرها لفترة، لكن لا أحد يضمن استمرارية توفرها، لأنه لا ضوابط تحكم السوق السورية عموماً”، وفي شهر 11 وصلت باخرتين محملتين بالحليب ولم تكفيا السوق المحلية.

وحاولت نورث برس، التواصل مع أصحاب مستودعات أدوية وحليب أطفال، ولم تلق سوى رد واحد وهو: “الموضوع حساس ولا يمكن الحديث عنه”.

ويسعى محمد دلوع (35 عاماً) أحد سكان مدينة درعا، جاهداً منذ شهر تقريباً للبحث عن علبة واحده فقط من حليب الأطفال لابنه الذي يبلغ من العمر أربعة أشهر لكن دون جدوى.

حليب من الأردن!

وبعد بحثه في جميع مدن وبلدات المحافظة عن علبة حليب واحدة، قال “دلوع” لنورث برس، إن حليب الأطفال “غير متوفر” في جميع صيدليات درعا.

ولم يجد “دلوع”، حلاً سوى شراء علبة الحليب من الأردن عبر سائقي سيارات نقل البضائع، رغم أن سعر العلبة الواحدة يبلغ 10 دنانير أردنية (ما يعادل 85 ألف ليرة سورية).

ويحتاج الطفل إلى علبة حليب واحدة كل يومين تقريباً، أي ما يعادل 40 ألف ليرة سورية بشكل يومي، وهو ما اضطر “دلوع” إلى استدانة مبلغ يقدر بـ200 دولار أميركي مقابل شراء كمية من حليب الأطفال لابنه، لأن دخله الشهري لا يتناسب مع ارتفاع سعر العلبة الواحدة إلى هذا الحد، بعد أن كانت تباع بـ30 ألف ليرة في صيدليات درعا قبل أن ينقطع.

وقال أنس الرفاعي (38 عاماً) اسم مستعار لأحد سائقي سيارات نقل البضائع بين الأردن وسوريا، لنورث برس، إن الآونة الأخيرة شهدت الكثير من حالات شراء حليب الأطفال من قبل أشخاص في الأردن وإرسالها إلى أقاربهم في سوريا بسبب عدم توفره في الصيدليات.

وأشار “الرفاعي” إلى أن، الجمارك الأردنية تتغاضى نوعاً ما عن زيادة نقل حليب الأطفال من الأردن إلى سوريا، لكن تم التنبيه على السائقين بأن تكون الكميات قليلة حيث لا تتجاوز الست علب وإلا سيكون هناك مخالفة ودفع مبلغ مالي.

وأوضح “الرفاعي” أن حليب الأطفال في الأردن أسعاره “مرتفعة جداً” مقارنةً مع سوريا، وكان في السابق يتم نقلها من سوريا إلى الأردن “بهدف التجارة”، لكن اليوم تشهد العكس تماماً بسبب عدم توفرها بشكل نهائي في صيدليات المحافظة.

ماهي المشكلة؟

وأرجع موفق اللبابيدي، (49 عاماً) اسم مستعار لأحد أصحاب مستودعات الأدوية في مدينة درعا، لنورث برس، سبب انقطاع الحليب في درعا، إلى توقف استيراده من قبل التجار وأصحاب مستودعات الأدوية نتيجة التخبط بسعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار.

وشدد “اللبابيدي” على ضرورة أن تعمل وزارة الصحة التابعة للحكومة السورية على توفير دولار تصديري لأصحاب المستودعات، أي بمعنى بيعهم دولار أميركي بسعر البنك المركزي وهو 4522 ليرة، بدلاً من شراءه من السوق السوداء بما يقارب 6500 ليرة أو يزيد.

وأوضح “اللبابيدي” بأن شراء الحليب بسعر الدولار في السوق السوداء لا يتناسب مع أصحاب المستودعات ولا المستهلك، حيث سيكون سعرها أكثر من تسعيرة وزارة الصحة وسيتم مخالفة من يبيع بسعر أعلى من التسعيرة وبذلك يتسبب بخسائر كبيرة، ما دفعهم للتوقف عن استيراد الحليب بشكل نهائي.

المرضعات الحل النهائي

لم يتخيل نضال دهان (35 عاماً)، وهو من سكان حي البياضة بحلب القديمة، يوماً أن يعود الزمان للبحث عن مرضعة لطفله الذي لم يتجاوز عمره 40 يوماً.

وأمام بكاء طلفه وعجز زوجته من منحه الكمية الكافية للإشباع، وعدم استطاعته تأمين عبوة الحليب، خضع الشاب الثلاثيني، لكلام والدته صاحبة اقتراح أن تقول أم ثانية (مرضع) بإطعام الرضيع عدة جرعات لعلها تفي بالغرض.

ويقول “دهان” بلهجته العامية: “عدنا إلى زمن ندور عن أم مرضعة وترضى ترضع”.

ويقول سامر عبد الكافي وهو يعمل محاسباً ضمن مستودع لتوزيع الأدوية الطبية في حي حلب الجديدة، إن مادة الحليب الخاصة بالأطفال الرضع بثلاث مراحل مفقودة منذ ثلاثة أشهر.

ومنذ تشرين الأول / أكتوبر 2022، لم يحصل المستودع على وارد من المواد المستوردة، وذلك بعد أن رفعت وزارة الصحة أسعار الأدوية والمواد المستوردة والمواد ضمن الأسواق مهربة.

وحاولت نورث برس الحصول على تصريح من جهة نقابة الصيادلة بحلب حول أزمة فقدان مادة الحليب الخاص بالرضع، لكن الأخيرة لم تستجيب بقول نقيبها محمد مجنو: “ما في شي احكي فيه، والحل مو من عندي”.

وبالعودة إلى الشاب “دهان”، فقد أشار إلى أن “فقدان الحليب لا يتعلق في حاجيات الكبار والأطفال حتى يتم التعامل معه في البدائل وإلغائها، والرضيع لا يتفهم معنى لا يوجد ولا الحرب الكونية التي تسوق لها الحكومة السورية ضد مناطقها”.

إعداد: دهب محمد/ مؤيد الأشقر/ رافي حسن ـ تحرير: قيس العبدالله