سوق المهن في “التكية السليمانية” بدمشق.. الاستثمار وصل إلى التراث
دمشق ـ نورث برس
مكان شبه مقفر، محال تبدو كأن أصحابها انتزعوا ما فيها على عجل ورحلوا، تلك هي حال سوق المهن اليدوية الذي يقع في “التكية السليمانية” وسط العاصمة دمشق، الذي كان لا يخلو من سياح أو طالبي سلع نادرة مشغولة بأيدي حرفيين تناقلوا المهنة أباً عن جد.
“الاستثمار وصل إلى تراث الآثار”، يقول أحد الحرفيين الذين التقتهم نورث برس هناك، وسط ريبة وخشية من الحديث، إذ سبق أن تعرض حرفيون هناك إلى المساءلة بسبب تصريحات نشرت في الإعلام، ونسبت إليهم.
يتحدث المصدر عن عمر قضاه في ذلك السوق، والسلع النادرة التي يقوم بتصنيعها، قبل أن تصل إلى جميع شاغلي السوق قبل نحو شهرين، إنذارات بالإخلاء، ضمن مهلة تنتهي في 31 من الشهر الماضي.
ويضيف: “وهو ما يعني أن جميع الحرفيين صاروا مخالفين الآن، ونحن في كل لحظة نترقب أن تأتي الشرطة لتزيل آخر ما تبقى من محلات في السوق، على قلتها”.
إنذار!
وتمتد السوق على مساحة إجمالية تقدر بـ11 ألف متر مربع في التكية السليمانية أو المدرسة السليمانية التي بناها السلطان سليمان القانوني عام 1566.
وقبل شهرين تقريباً أو أكثر، تلقى شاغلوها من الحرفيين إنذاراً بإخلائها من قبل وزارة السياحة السورية، بحيث أعطت الوزارة مهلة لا تزيد على شهرين حتى يقوم الحرفيون بتسليم محالهم التي يشغلونها منذ عام 1972 بصيغة عقود إيجار تحولت فيما بعد إلى عقود استثمار سياحية.
أمر إنهاء هذه العقود جاء فورياً، ومن لن يوقع من الحرفيين الـ41 على إنهاء عقده وتسليم محله، يتعرض لإلقاء بضاعته في الشارع، ويتم ختم محله بالشمع الأحمر.
يتفق الجميع هناك على أن لا جدوى من أي كلام، إضافة إلى أن الحديث محفوف بالمخاطر، رغم ذلك تخرج كلمات تعبّر عن مدى السخط، والغضب، خاصة أن أحداً لم يخبرهم لماذا الإخلاء، وما المشروع الذي ستقوم به الحكومة.
“ترميم”، هكذا قالوا لنورث برس، وسط شكوك حتى في ذلك، فالأعمال التي تجري في منطقة “التكية” لا توحي أن هدفها الترميم، بل إشادة مشروع آخر، لم يكن لدى أحد أي معلومات عنه.
كذلك ليست هناك جهة معلنة مسؤوليتها عن أعمال الترميم، وإن كان الجميع يشيرون إلى أن من يقف خلف ذلك المشروع هي “الأمانة السورية للتنمية”، وهي التي لا تتبع رسميا لأي جهة حكومية، لكنها بدأت تدخل في مشاريع كثيرة، وخاصة في مجال التراث وإعادة إحياء وتأهيل مناطق أثرية.
حسب الكتاب الذي تلقاه الحرفيون هناك من وزارة السياحة، فإن الأخيرة تخبرهم بأنها ستفسخ عقد الاستثمار الموقع معهم، “بهدف استكمال المرحلة الثانية من أعمال الترميم وإعادة تأهيل التكية السليمانية/ سوق المهن اليدوية”.
وتطلب الوزارة منهم “المساعدة بإنهاء عقود استثمار المحلات في سوق المهن اليدوية حفاظاً وصوناً لهذا المعلم الأثري السوري”، حسب نص الكتاب.
وتلقى أصحاب تلك المحال وعوداً “شفهية” بأنهم سيعودون إلى محالهم حين الانتهاء من أعمال الترميم، وحين طالبوا بأن يدونوا ذلك كتابة في عقد بين الطرفين، امتنعت الوزارة، واكتفت بالتأكيد على أن ذلك وعد، وسيتم و”لا داعي لتوثيقه كتابة”، وهو ما زاد الشكوك لدى الحرفيين، الذين يشغلون تلك المحال قبل عقود، بموجب مبادرات داعمة للعمل الحرفي في حينه.
إلى المجهول
لا يقتصر الشعور بالظلم على أن الحرفيين سيغادرون دون وعد “موثق” بالعودة، بل إن الوزارة لم تؤمن لهم بديلاً معقولاً، فالمكان البديل “حاضنة دمّر للحرفيين” يقع في منطقة بعيدة عن وسط البلد، كما أنها ليست مقصداً للسياح، ولا للزائرين.
عدم توفر البديل جعل الشعور بالظلم مضاعفاً، خاصةً لدى استرجاع كل منهم لعقود قضوها في ذلك السوق الأثري العريق، والسلع التي يتفاخرون أنها وصلت إلى أقصى البلدان، كما جذبت السياح.
لذلك تتردد كثيراً عبارات مثل: “عمري قضيته هنا”، أو: “هذه الجدران فيها شبابي”، أو: “أكثر من خمسين عاماً وأنا هنا”، بل إن بعضهم يفضل الصمت.. حين يكون عليه أن يجيب عن سؤال: “ما الذي يعنيه لك هذا المكان”.
اثنان من الحرفيين، أطالوا النظر والصمت، دون كلمة، وغادروا في إشارة إلى انتهاء الحديث.
تضم “سوق المهن اليدوية” أكثر من 60 حرفياً تراثياً يعملون في مهن دمشقية وتراثية عريقة توارثها الأبناء عن الآباء والأجداد منذ مئات السنين، ولطالما اشتهرت بها السوق الكبرى للمهن التراثية في منطقة الشرق الأوسط.
ولعل أبرزها صناعة السيف الدمشقي والبروكار والبسط العربية والحلي والعجمي والأزياء الفلكلورية وصناعة الخزف، إضافة إلى صناعات أو حرف الزجاج المعشق والرقم الطينية والمشغولات الفضية والذهبية والمقرنصات الخشبية والصدفيات، والنقش على النحاس، بالإضافة لحرف القيشاني والجلديات وحياكة الثوب الفلسطيني وصناعة الأعواد الشرقية ورسم اللوحات الزيتية والخط العربي ذات الطابع التراثي المحلي.
البديل
لا أحد يعرف ما المشروع الذي سيحل مكان ذلك السوق الذي يحوي نحو 50 محلاً معظمها أغلقت، وبدت مقفرة، وخاصة تلك المحال التي أنشئت مؤخراً، في مكان الجدار الذي يقابل المحال الأثرية.
كان أصحاب تلك المحال الحديثة أول من التزم بقرار الإخلاء، وجميعهم يتبعون للأمانة السورية للتنمية، التي منحتهم تلك المحال قبل عامين، وهو ما ينظر إليه كثير من الحرفيين في المحال المقابلة “التاريخية” بريبة، يقولون إن موقف أولئك أضعفهم، وجعل أمر الإخلاء حتمياً.