محادثات السلام المستحيل بين أنقرة ودمشق

ما انفكت تركيا انطلاقاً من النصف الثاني من العام المنصرم وحتى اللحظة، عن إبداء مقدار غير قليل من التذلّل، إن لم نقل من المهانة، لأجل إبرام صفقة مع النظام السوري، ودائماً عبر اتباع منهج براغماتيّ يعلي من مصالح الحزب الحاكم على حساب ما أسماه الحزب نفسه بالثوابت إزاء نظام الأسد، وبالتالي لم يعد هناك مجال لاستعادة المسمّيات التي برّرت التنازلات التركية السابقة على أنها “انعطافة” أو “استدارة”، ذلك أن تنازلاتها الأخيرة تشي بانعدام الاستراتيجيات وحلول التكتيكات المؤقّتة مكانها.

ولعل الحكومة التركية اقتبست من معارضتها، إن لم نقل نسخت، شكل الحل المتخيّل مع النظام السوري، فقد سبق لحزب الشعب الجمهوري على لسان زعيمه كمال كليجدار أوغلو أن أفصح عن تصوّراته لحل مشكلات بلاده مع سوريا من خلال التعامل مع دمشق على قاعدة الدبلوماسية والندية وإحياء دور سفارات البلدين بما يفضي إلى إعادة اللاجئين السوريين خلال سنتين وحل المشكلات الحدودية.

بيد أن الفارق بين مقاربة الحكومة التركية ومعارضتها واسع لجهة تصوّرات شكل الحل، فالحل سياسيّ عند المعارضة، فيما هو أمنيّ لدى الحكومة الحالية، وهو ما يفسّر المحادثات التي رعتها موسكو وجمعت إلى طاولة واحدة وزراء دفاع تركيا وسوريا وأرفع المسؤولين الأمنيين. وحريّ بالتذكير أن تركيا التي كانت تعترض على حلول النظام السوري الأمنية انزاحت إلى هذا التصوّر، فهي في هذه الأثناء لا ترى في سوريا إلّا مشكلة أمنية ضاغطة ومركّبة يمكن حلها عبر تشكيل تحالف يسعى إلى تأديب الكرد “العصاة”، وتنتهي بالمقايضة على مصير المعارضة والمناطق المحتلّة.

مراراً أبدت دمشق تمنّعاً تجاه الدعوات التركية الرامية إلى عقد لقاءات على أعلى المستويات في البلدين، وآية الآمر أن النظام  كان أقرب للتصوّرات التي أطلقتها المعارضة التركية، بل إنه وصل إلى مرحلة “ربط الكلام” مع معارضين أتراك زاروا دمشق ولقوا انتقادات شديدة من حكومة بلادهم وسخرية ممزوجة بالإزدراء، ولئن كانت المعارضة تبرّر الأمر بالغاية الفضلى للاستقرار التركي الداخليّ المتمثل بإعادة ما ينوف عن 3.5 مليون لاجئ على ما شكّلته مسألة اللاجئين السوريين من مادة للمنافسة الانتخابية، فإن الحكومة التركية أيضاً بدأت تستشعر تأثير هذا الملف على الأهواء الانتخابية للناخب التركي، ذلك أن الاستبيانات أظهرت ميلاً شعبياً عارماً يرغب في عودة اللاجئين إلى بلادهم، بما في ذلك كتل وازنة من ناخبي حزب العدالة والتنمية الحاكم، فيما بدت وعود إعادة مليون لاجئ التي أطلقتها الحكومة مع بناء سلسلة مستوطنات في عفرين وريف حلب الشمالي مجرّد محاولة دعائية لتهدئة الرأي العام الغاضب، بل إنها كانت أقرب لعملية بيع وهم جديدة شبيهة بوعود الرئيس التركي إرسال مركبة إلى سطح القمر عام 2023.

بطبيعة الحال بررت دمشق في وقت لاحق رفض عقد محادثات مع الجانب التركي بأنها لا ترغب في لقاء القيادة التركية لئلا تصبح اللقاءات مدخلاً لتخليص أنقرة من معضلة اللاجئين المزمنة، وبما يصب في مصلحة الدعاية الانتخابية للحزب الحاكم، في حين أن تفسير تسارع اللقاءات وبدء المحادثات يمكن فهمه على أنه يصب في مصلحة موسكو أيضاً التي مارست نوعاً من الضغوط على دمشق، ذلك أن روسيا أمام مفاضلة حقيقية فيما خصّ الانتخابات التركية، فهي تميل إلى تدعيم وضع صديقها رجب طيب أردوغان على حساب المعارضة (طاولة الستة) التي تريد إعادة علاقات تركيا مع الناتو والولايات المتحدة، وبذا يصبح فوز أردوغان أفضل ما يمكن تحقيقه لمصالح موسكو في المنطقة حتى وإن تطلّعت دمشق لفوز معارضيه.

ثمة استحالة في الوصول إلى سلام دافئ على ما تقوله الدعاية التركية، إذ ليس في إمكان أنقرة التخلّي عن مناطق سيطرتها والانسحاب من الأراضي التي احتلتها رغم التصريحات التي تشي بإمكانية الانسحاب، كما لن يجدي نفعاً إقامة تحالف مع النظام بغية محاربة قوات سوريا الديمقراطية طالما أن أي تحالف سيصطدم في المحصّلة بالجدار الأميركي، فضلاً عن أن النظام يريد براءة ذمّة من الأتراك عبر تسليم رقاب فصائل في المعارضة المسلّحة لدمشق وهو أمر يشق على تركيا تنفيذه بسهولة، فيما تبقى ورقة اللاجئين مليئة بالتفاصيل التي يصعب حلّها في الفترة التي تسبق الانتخابات التركية الحاسمة في حزيران 2023.

الأقرب للتحقّق هو تصوير أنقرة المحادثات المعلنة، وكذلك السرية، على أنها بداية جديدة تحقق ثلاث مسائل دفعة واحدة: جعل قسد مشكلة سورية أيضاً بدل أن تكون مشكلة تركية محضة، وإيهام الرأي العام التركي بإمكانية حل معضلة اللاجئين السوريين وإجلائهم عبر بوابة دمشق، وأخيراً توجيه رسالة للأميركان باحتمال توثيق التعاون مع دمشق وموسكو على ما يمثّله من حلقة ابتزاز جديدة.

يصعب تصوّر بذل تركيا لهذه التنازلات وتسارع وعودها لدمشق خارج مدار المنافسة الانتخابية التركية، وربما يحقق التطبيع اللاحق بين البلدين بعض الغايات الأمنية وإعادة إحياء اتفاقية أضنة 1998، وتسيير دوريات مشتركة على طول الحدود المشتركة، غير أن ما تفهمه دمشق من تهافت أنقرة واستعجالها هو أن الأمر لا يعدو أكثر من تكتيكات مؤقّتة ستنتهي حال فوز الحزب الحاكم في الجولة الانتخابية المقبلة، وأن أنقرة ستعود للمماطلة مجدداً، وهو الأمر الذي سيفرض على دمشق الرغبة في تسريع كل ما سيتمّ الاتفاق عليه قبل موعد الانتخابات التركية، وإلّا فإن الفائز في هذه المناورات/المحادثات سيكون الأتراك إلى جانب الروس الساعين إلى إعادة تعويم الحكومة التركية الصديقة، فيما ستخرج دمشق صفر اليدين، خلا بعض المكتسبات الرمزية كفرض سيادتها على مناطق تسيطر عليها تركيا ورفع أعلامها على مفارز حدودية وعلى العربات التي تجوب الحدود رفقة عربات الأتراك.

في مقام آخر، يستلزم الوصول إلى سلام حقيقي تسبيق التصوّرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية على التصوّرات الأمنية، كما يفترض إحلال السلام وجود حكومتين تتمتّعان بالقوّة وتسعيان إلى السلام جدّياً وهو أمر مشكوك فيه بالنظر إلى أوضاعهما الداخلية، وإلى جوار هاتين المسألتين فإن الوصول إلى اتفاقات راسخة يمرّ بعشرات التفصيلات على الأرض والتي تحتاج معالجتها لوقت طويل، ولعل الوقت هو الترف الوحيد الذي لا تمتلكه أنقرة ودمشق في هذه الأثناء.