في اجتماع موسكو الكل رابح عدا السوريين

على مدار عقد من الزمن كانت تصريحات القيادة التركية تتضمن وصف حاكم دمشق باللاشرعي وبالديكتاتور والقاتل، وأن حسابه على الجرائم التي ارتكبها بحق الشعب السوري سيكون عسيراً، وأن نصرة الشعب السوري واجب على كل شعوب المنطقة، وأنهم المهاجرين والأتراك هم الأنصار، وغيرها من تصريحات أراحت نفوس السوريين، وخلقت بهم الأمل بحليف سيكون عوناً لهم أمام جلاد استعصى بحكم سوريا، وقرر مواجهة الشعب السوري بكل ما امتلكت آلته العسكرية من قوات وعتاد وإمكانيات.

انعطاف أنقرة نحو عواصم عربية (الرياض، دبي، القاهرة) وتصحيح العلاقات معها، قرأها السوريون على أنها خطوة بالاتجاه الصحيح لإعادة رص الصفوف بدعم قضية الشعب السوري التي مزقتها تلك الخلافات، لكن الانعطاف نحو دمشق فاجأهم وبدؤوا ضرب أخماسهم بأسداسهم عما سيؤول إليه المصير.

في ظل قيادة عسكرية وسياسية وحكومية مترهلة ومسلوبة القرار للمعارضة السورية, يبقى الشعب السوري مكشوفاً بلا غطاء ولا سند وبعيداً عن أي تمثيل له, فالائتلاف الوطني لقوى الثورة (وهو البعيد عن الثورة) منشغل بغياب رواتبه ومخصصاته المالية التي أوقفتها تركيا بسبب اختلاسات وفقدان مئات آلاف الدولارات من خزينته دون تقديم بيانات أو كشوف تبين أين صُرفت, ومع توقف الأموال توقف عملهم السياسي (المتوقف أصلاً), وحتى الموظفين الإداريين في مبنى الائتلاف تم إبلاغهم من أمانة الائتلاف بوقف صرف رواتبهم اعتباراً من 22 الشهر الماضي, وسياسياً فقد الائتلاف دوره لصالح هيئة التفاوض واللجنة الدستورية, ويصح عليه القول: إكرام الميت دفنه.

الحكومة المؤقتة جزء من أربع حكومات في الجغرافيا السورية تسيطر عليها سلطات الأمر الواقع وتقتات على دماء السوريين، لا سلطة حقيقية ولا خدمات وجل ما تقوم به الحكومة المؤقتة مع قريناتها ببقية المناطق هو عملية قوننة وشرعنة طرق نهب جيوب الناس وجباية الأموال لحساباتهم البنكية.

في الشق العسكري فقد توقفت الجبهات ومُنعت من أي عمل عسكري ضد نظام الأسد وحزب الله وإيران بموجب تفاهمات أستانا بين أنقرة وموسكو، ويحق لهم فقط الرد على انتهاكات النظام وخروقاته، وحتى تلك أحياناً تنازلوا عنها أو كانت ردودهم خجولة وعلى استحياء وتحت عنوان: إسقاط الواجب، وفقط باتجاه شرقي الفرات بقيت بندقية الفصائل موجهة بموجب التبعية التي تحكم الجيش الوطني لصالح الجيش التركي لقتال قوات سوريا الديمقراطية.

أمام هذا الواقع كان لابد من استعادة قرار الثورة للحاضنة الشعبية التي أعلنت سحب ثقتها عن معظم القيادات العسكرية والسياسية والحكومية في شمال غربي سوريا منذ إعلان وزير الخارجية التركي أنه أجرى محادثة قصيرة مع وزير خارجية النظام السوري فيصل المقداد، على هامش اجتماع حركة عدم الانحياز الذي عقد في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بالعاصمة الصربية بلغراد، ونتيجة صمت كل من تصدر المشهد الرسمي للثورة السورية، قامت الحاضنة الثورية بتنظيم المظاهرات ورفع شعار “لا للمصالحة من نظام الإجرام في دمشق”.

لم يكن لقاء وزير الخارجية التركية هو فقط عامل القلق لدى جمهور الثورة, بل التصريحات التي تتالت فيما بعد من أعلى هرم القيادة السياسية التركية, والتي بدأت الحديث عن قرب لقاء أنقرة بدمشق وقرب قمة الرئيس أردوغان بالأسد, وبعدها بدأت توضع خرائط وسيناريوهات ومطالب الطرفين لتحقيق تلك الأهداف, أنقرة قالت إن أي لقاء قمة تجمع أردوغان بالأسد يجب أن تعبر حافلتها محطات أربع, الأولى وصلت إليها حافلة المصالحة عبر لقاءات أمنية تكررت أكثر من مرة بين رئيس الاستخبارات التركية حقان فيدان وبين مدير مكتب “الأمن الوطني” حالياً، اللواء علي مملوك, على أن تمر الحافلة بمحطات أخرى تشمل لقاءات بين وزارتي الدفاع ثم لقاءات بين وزارتي الخارجية التي ستضع اللمسات الأخيرة لجدول أعمال قمة تجمع الرئيس التركي بالرئيس اللاشرعي في دمشق.

اجتماع موسكو بين وزراء دفاع روسيا “سيرغي شويغو” والتركي “خلوصي أكار” والسوري “علي محمود عباس” الذين اصطحبوا معهم رؤساء أجهزتهم الأمنية, لم يكن مفاجئاً ولا مباغتاً ولا حدثاً مستغرباً نظراً للزخم المتصاعد من تصريحات المسؤولين الأتراك والتي طغت على الحدث الأهم تركياً، وهو موضوع الانتخابات والأزمة الاقتصادية التي تعاني منها الليرة التركية, وفي هذا الاجتماع أُقرَّ وبحسب “وكالات أخبار” عن تشكيل لجان ثلاثية لمتابعة النقاش من قبل الجهات المجتمعة تبدأ عملها نهاية الشهر الحالي كانون الثاني/ يناير، على أن يكون مقر انعقاد الاجتماعات عواصم بلادهم بشكل متناوب تكون بدايته في موسكو تليه أنقرة ثم دمشق.

في ظل معارضة سورية في تركيا فاقدة للقرار, ضعيفة, مترهلة, لم تعد تمثل السوريين بعد أن سحبوا الشرعية منها منذ زمن, ولم يعد يعيرونها أدنى اهتمام, لم يكن متوقعاً من تلك المعارضة أكثر مما اعتاد عليه السوريين, غياب كامل عن المشهد, أو اختلاق سبب لامتناعهم عن إصدار بيان كما فعل رئيس الائتلاف سالم المسلط عندما ادعى تعرضه لوعكة صحية ونقله للمشفى تهرباً من المسؤولية أثناء غزو مدينة “عفرين” من قبل أبو محمد الجولاني الإرهابي زعيم تنظيم جبهة النصرة أو هيئة تحرير الشام, وباستثناء بعض المواقف الفردية لم تصدر أي جهة رسمية معارضة موقفاً مما حصل في موسكو, باستثناء خبر عن اجتماع قادم بين رئاسة الائتلاف والخارجية التركية, رغم أن مصادر تركية تحدثت أن عبد الرحمن المصطفى رئيس ما يسمى “حكومة سورية مؤقتة” أوعز للفصائل بالتجهز للمصالحة مع النظام, وقال رئيس تحرير صحيفة Aydinlik التركية “مصطفى يوجال”، خلال لقاء تلفزيوني مع رئيس حزب الوطن التركي، إن رئيس الحكومة السورية المؤقتة عبد الرحمن المصطفى “يتزعم” 11– 12 فصيل, وقد اجتمع معهم في عينتاب التركية منذ عدة أيام وأبلغهم بأنه قد حان الوقت للمصالحة مع النظام السوري وطلب منهم التجهز للمرحلة الجديدة, مضيفاً، بأنه يجري في الوقت الراهن تجهيز الفصائل المسلحة على الأرض لهذه المرحلة، وهو ما نفته الجكومة المؤقتة.

أمام هذا الواقع كان لابد للحاضنة الثورية أن تخرج للساحات والشوارع مرة أخرى لتأكيد نقطتين أساسيتين: الأولى أنها ترفض أي مصالحة مع النظام اللاشرعي في دمشق، والثانية أن قرار الثورة لديها، ولن تقبل بقرارات أو مواقف لكيانات سياسية وعسكرية غير شرعية اغتصبت سدة قيادة الثورة، وبهذا الصدد خرجت مظاهرات عارمة وغاضبة في معظم مدن وبلدات وقرى ومخيمات الداخل في شمال غربي سوريا، رافضة المصالحة وفاضحة تخاذل القيادات السياسية والعسكرية وحتى الحكومة المؤقتة.     

فحوى لقاء وزراء الدفاع في موسكو لم يكن واضحاً وتتالت تسريبات عدة تحدثت عن اتفاق الأطراف الثلاثة المجتمعة على فتح الطرق الدولية (M4), وتأمين عبور البضائع التركية نحو الأردن ولبنان والخليج العربي, وإنشاء آلية مشتركة لتسهيل عودة اللاجئين السوريين بعد توفير أرضية مناسبة, وإنهاء تواجد قوات سوريا الديمقراطية في شرقي الفرات, وعودة ميليشيات الأسد للحدود الدولية وسيطرتها على المعابر, وكان وزير الخارجية التركي تشاويش أوغلو قد لمح لإمكانية انسحاب تركيا من سوريا لصالح نظام الأسد, مقابل مصادر تحدثت عن طلب تركي بتعديل اتفاقية أضنة من حيث عمق التوغل التركي دون إذن من دمشق لتصبح 32كم على كامل الحدود التركية_ السورية بدلاً من خمسة كيلومترات كانت بالسابق.

في ميزان الربح والخسارة قد يكون الرئيس أردوغان أكبر الرابحين من خلال سحبه لأوراق ضاغطة لطالما حاولت المعارضة التركية التشبث بها وإشهارها بوجه حزب العدالة والتنمية وأهمها ورقة اللاجئين, تليها ورقة الحرب على الإرهاب وغيرها من ملفات قد تُشكل فارقاً ومحفزاً للأصوات الرمادية التي لم تحسم موقفها في صندوق الانتخابات التركية القادمة منتصف العام الجديد 2023, وبشار الأسد الفاقد للشرعية في دمشق قد يجد باللقاء مع غريمه إمكانية حصد أجزاء من شرعيته المفقودة, لكن مرابحه ستبقى معنوية أكثر منها مادية, فاللقاء مع أردوغان لن يقدم فائدة لاقتصاده المأزوم الذي يعاني منه, وحتى عودة اللاجئين في ظل إحجام الدول المانحة على دعم اتفاقات وتفاهمات جانبية سيزيد من أعباء نظام دمشق المالي المفلس بنكها المركزي, لذلك نُقل عن البعض أن وفد الأسد إلى موسكو كان فاتراً ومتردداً عند نقاش ملف عودة اللاجئين, وأمام رابح في أنقرة وشبه رابح في دمشق يبقى الشعب السوري هو الخاسر الأكبر بعد مد أطواق نجاة لنظام متهالك آيل للسقوط.

دخول ورقة اللاجئين السوريين في تركيا (يوجد في تركيا 4,7 مليون لاجئ سوري) كملف انتخابي تركي خلافي، أرق السوريين في تركيا بعد تعرضهم لكثير من حملات العنصرية أدت لمقتل عدد منهم وترحيل قسم كبير إلى سوريا، ومع لقاء موسكو الأخير باتوا يتوجسون خيفة من إعادتهم لنظام دمشق وهم الرافضون العودة لمناطق شمال غربي سوريا نتيجة الانتهاكات التي تُمارس فيها، فكيف العودة لمناطق نظام دمشق صاحب التاريخ بالإجرام والمجازر؟؟ خاصة أن من يُفترض أن يدافعوا عنهم (الائتلاف والحكومة المؤقتة) نائمون بالعسل ولا هم ولا غم لهم بالالتفات لتلك القضايا السخيفة بنظرهم.

التصريحات التركية سلطت الضوء على أحد أهم أهداف مصالحة أنقرة لدمشق من خلال توحيد الجهود العسكرية للطرفين (تركيا وجيش الأسد) مع “الجيش الوطني” لمحاربة “إرهاب قسد” في شمال شرقي سوريا, لكن المعطيات على الأرض تختلف عن الأمنيات والرغبات, فمن ناحية, لا قدرات عسكرية ولا نية لنظام الأسد بالقتال شرقي الفرات, وحتى لو توفرت الإمكانيات والمقدرات فمن الذي يستطيع مهاجمة منطقة يحميها تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية التي تفرض حظراً جوياً وبرياً على كامل مناطق شرقي الفرات, إضافة أن الموقف الأميركي مما حصل في اجتماع وزراء الدفاع في موسكو كان واضحاً برفض واشنطن دعم أي عملية تطبيع مع الديكتاتور الوحشي بشار الأسد (كما جاء بالتصريح حرفياً), وحثت واشنطن الدول على النظر بعناية لتاريخ نظام بشار الأسد (ملمحة لمجازر صور قانون قيصر ومجزرة حي التضامن), وأكدت واشنطن أنها لم تغير سياستها تجاه نظام بشار الأسد, وكان الرئيس الأميركي جو بايدن قد وقع منذ أيام مشروع قانون لمكافحة إنتاج الكبتاغون والاتّجار به من قبل ميليشيات بشار أسد في سوريا، وذلك بعدما أقرّه الكونغرس الأميركي.

مما لا شك فيه أن الانعطافة التركية أحدثت تعقيدات وتشابكات جديدة تُضاف للمشهد السوري المتأزم أصلاً, لكن هناك من قال إن الخطوة التركية قد تكون غايتها تحفيز بقية الأطراف الدولية والإقليمية, ودفعها لإعادة تفعيل الملف السوري المهمش عن طاولات الحوار السياسية, وأن أنقرة كأكبر المتضررين من وجود قرابة خمسة ملايين لاجئ سوري على أراضيها, وستة ملايين آخرين تحت نفوذها, لابد أن تتحرك وتحرك بقية الحكومات من أجل التسريع بحل سياسي ينهي المأساة السورية, وهناك من قال إن كل ما يجري عبارة عن مناورة سياسية للقيادة التركية التي تعلم تماماً أن بشار الأسد تجاوز نقطة الإنقاذ والفاعلية, وأن غاية أنقرة ربح الوقت, وسحب أوراق ضاغطة من يد المعارضة التركية, والوصول لموعد الانتخابات بوضع أفضل, ثم تطوى كل تلك المرحلة باجتماعاتها ووعودها, لكن المواطن السوري الذي سأم الموت والقتال والتهجير والنزوح يتطلع للخلاص لكن عبر إسقاط منظومة لاشرعية وفاسدة وقاتلة ما زالت تغتصب السلطة في دمشق.